إبراهيم برسيفي جغرافيا الشرق التي تكتظّ بالرموز، لا تُشنُّ الحروب من غير عنوان، ولا يُختار للاسم إلا ما يُراد له أن يحكم التأويل.فحين تُسمي إسرائيل عدوانها على إيران بـ”عملية الأسد الصاعد”، فهي لا تُسمِّي فقط، بل تُؤطّر الحرب بوصفها صعودًا لا سقوطًا، قفزًا فوق الحدود لا تراجعًا أمام الأخطار.وكأنها تقول، بفائض من الرمز: هذا ليس هجومًا بل ولادة جديدة لأسدٍ ينهض من الشرق ليعيد ترتيب الخرائط.لكن من هو هذا “الأسد”؟ وهل يصعد فعلًا؟ أم أنه مجرّد ظلّ لأسدٍ مثخن بالخوف، يبحث في القصف عن معنى؟في الساعات الأولى من صباح الثالث عشر من يونيو 2025، تخلّت إسرائيل عن لعبة الشبح، وقرّرت الانتقال من ظلال “حرب الظل” إلى مسرح الضوء الكامل.أكثر من مئتي طائرة حربية حلّقت نحو إيران، وضربت أكثر من مئة هدف استراتيجي: منشآت نطنز وفوردو النووية، معسكرات للحرس الثوري، ومراكز للقيادة والتحكّم.لم تكن مجرد ضربة تكتيكية، بل إعلان إرادة.إعلان قاسٍ يقول إن الزمن القديم انتهى، وأن الممانعة لا تصلح حين يتعلق الأمر بـ”التهديد الوجودي”.لكن السؤال الأعمق لا يزال عالقًا في هواء المعركة: من الذي يقرّر الوجود؟ ومن الذي يمنح شرعية القصف باسم الخوف؟وما يجعل هذه الحرب مختلفة، أنها لم تنشب فجأة بل كانت تُكتب على جدران الوعي منذ زمن بعيد.لقد كُتبت مقدمتها في السرديات اللاهوتية، وتغذّت من ذاكرة الإمبراطوريات.إسرائيل لا ترى في إيران مجرد دولة عدوة، بل نفيًا لوجودها، فيما ترى طهران في تل أبيب كيانًا مغتصبًا لا يجب أن يُطبع ولا يُحتمل.يتقاطع الديني بالسياسي، وتتحول الخريطة إلى مرآة مشروخة، يرى كل طرف فيها صورته المنتظرة: دولة لا تُقهر، وعقيدة لا تُهان.وإذ تتخذ إسرائيل لنفسها هيئة “الأسد الصاعد”، فهي تستدعي من اللاوعي الجماعي رمزية الأسد كرمز للقوة النبوية، للهيبة التي لا تُستأنس.لكن في العمق، هي تخاف.تخاف من القنبلة الإيرانية كما تخاف من فكرة أن هنالك من لم يعد يقبل بشروط اللعبة كما رسمها الغرب.من هنا تأتي الضربة لا كخيار، بل كفعل مضاد للقلق.كأنها صرخة: لن ننتظر القنبلة لتنفجر فوق رؤوسنا.لكن الردّ الإيراني، والذي تأخر، جاء غاضبًا، لكنه غير محسوب بدقة.أكثر من مئة صاروخ باليستي ومسيرات هجومية استهدفت تل أبيب والقدس.نجحت القبة الحديدية في اعتراض معظمها، لكن الرسالة وصلت: لم نُكسر.إيران، التي ترى في نفسها وريثة إمبراطوريات فارس، لم تعد تقبل أن تُعاقَب على طموحها النووي، أو تُرسم حدودها من الخارج.وعند هذه النقطة يتضح أن الصراع لم يكن أبدًا حول الأسلحة فحسب، بل حول من يملك حق صياغة المعنى وتحديد التوازن.الجذر الحقيقي للصراع لا يكمن في عدد الرؤوس النووية، بل في من يملك حق “تحديد التهديد”، ومن يُسمح له بالصعود.إسرائيل، بدعم أمريكي غير مشروط، ترى في صعود إيران تهديدًا للمنظومة الإقليمية التي صاغتها، بينما ترى طهران أن امتلاك القوة هو وحده ما يمنع الهيمنة ويؤسس لتوازن جديد.ولأن الحرب لا تنفصل عن مسرحها الدولي، فقد ظهر منذ اللحظة الأولى أن ما جرى في تلك الليلة لم يكن مواجهة ثنائية، بل فصلًا جديدًا من صراع دولي يتوارى خلف الأقنعة.الولايات المتحدة كانت هناك، وإن لم تطلق صواريخها.الموقف الأمريكي لم يكن دفاعًا عن حليف فقط، بل صيانة للنظام العالمي كما تراه واشنطن: نظام قائم على تفوق الأصدقاء لا على توازن القوى.وفي المقابل، عبّرت روسيا والصين عن قلقهما دون أن تُدينَا الضربة صراحة.ليس حبًا في إسرائيل، بل تذكيرًا لإيران بأن الحليف الحقيقي لا يُغامر بجبهاته من أجل آخر.فيما ظلّ العرب، كعادتهم، متفرجين خائفين، يضعون أيديهم على أنوفهم لئلا تصل رائحة البارود إلى أبوابهم.بعضهم، في صمت الموانئ، و بعضهم تدغدغه فرحة خفية بتوجيه ضربة لإيران التي طالما أربكت طموحاتهم.وفي قلب هذا المشهد المحتدم، ينهض سؤال لا تقدر عليه القنابل:ما جدوى القوة حين تتحول إلى وسيلة إنتاج رمزي؟وهل يمكن أن تُكتب السيادة بصوت محركات الـF-35؟إن ما جرى ليس انتصارًا ولا هزيمة، بل مشهد آخر من كابوس طويل تُعاد فيه كتابة الخرائط بالحبر الممزوج بالنار.لكن وسط كل هذا الدخان الرمزي، لا بد أن يُقال ما هو أفدح من الصمت:هذه الحرب، مثل كل حرب كبرى في الشرق، لا تُشعلها النبوءات بل تُشعلها الأسواق.ثمة مَن يربح من كل صفارة إنذار، من كل صورة لمدني يركض مذعورًا، من كل قبةٍ تصدّ أو تفشل.في قلب هذه النار، يشتغل المجمع الصناعي العسكري – الأميركي-الإسرائيلي – بكفاءة مدهشة:يعيد تدوير الخوف، ويُصدّر الصواريخ، ويحوّل التوتر إلى بورصة تسليح عابرة للقارات.أمّا إيران، فليست خارج هذه المعادلة تمامًا.فكل طلقة تطلقها، تمنح خطابها شرعية جديدة أمام الداخل المقهور، وتؤجّل أسئلة الثورة والاقتصاد والمعنى.هكذا، يُعاد تشكيل الشرق الأوسط لا من خلال النصر أو الهزيمة، بل عبر مَن يحتكر معنى التهديد، ويحوّله إلى سلعة، ثم يعرضها علينا بعبارة: “الحل العسكري هو الخيار الوحيد”.وحين يتحوّل الفعل العسكري إلى أداة فلسفية لإنتاج المعنى، نكون أمام كارثة سردية.لأن ما يُكتَب اليوم بالصواريخ لا يمكن أن يُمحى بالكلمات غدًا.والمشكلة أن الجميع يُدرك ذلك، لكنهم يتابعون اللعبة حتى نهايتها – كما في التراجيديات القديمة – لأن لا أحد يستطيع أن ينهض من خشبة المسرح قبل أن يسقط البطل الأخير.تبقى الخاتمة مفتوحة كما العنوان نفسه:هل كان هذا “الأسد” صاعدًا فعلًا؟أم أنه، مثل كثير من الوحوش الرمزية، قد صعد فقط ليخفي ضعفه؟لقد خسرت إيران قادة، وخسرت إسرائيل هدوءها الاستراتيجي، لكن الخاسر الأكبر هو المنطقة بأكملها، التي أُجبرت مرة أخرى على أن تعيش في حالة تأهب دائم، تُراوح بين الغليان والانفجار.عملية “الأسد الصاعد” ليست نهاية لصراع، بل بداية لتاريخ جديد من اللا استقرار، يُكتب هذه المرة من فوق الحمم، وتُقرؤه الشعوب من تحت الأنقاض.أما الأسد، فسواء صعد أم هبط، فقد ترك خلفه أثرًا لا تمحوه البلاغة، ولا يُرممُه الخطاب الرسمي.في الشرق، لا تنتهي الحروب… بل تُغيِّر أسماءهاThe post عملية “الأسد الصاعد”: الضربة الإسرائيلية الكبرى appeared first on صحيفة مداميك.