بقلم: عمر الدقيرالإفادات التي أدلى بها الدكتور عبد الله علي إبراهيم بشأن الحرب الجارية في السودان، ودعوته لاستمرارها – خلال حواره مع قناة “الجزيرة مباشر” مساء أول أمس – تثير قدراً كبيراً من الدهشة والاستغراب، لا سيما ما انطوت عليه من لا مبالاة بالمأساة الإنسانية التي تعصف بملايين السودانيين .. تشبيه الحرب برقصة “تانغو” يُعد اختزالاً مُخلاً يشي بتجريدها من فظاعتها، ويتغافل عن مآسيها وآلام ضحاياها، حتى لو كان القصد من وراء هذا التشبيه الإشارة إلى طبيعتها كصراع ثنائي لا ينتهي إلا برغبة أو هزيمة أحد الطرفين؛ إذ إن التشبيه، حين يتصل بالمآسي الإنسانية، ينبغي أن ينضبط بميزان الوجدان السليم والمسؤولية الأخلاقية، لا أن يتحول إلى تجميل لصراع دامٍ يسقط فيه المدنيون قتلى وجرحى ومشردين ومُنتهَكي الكرامة وكافة الحقوق.الدكتور عبد الله، وهو الكاتب المرموق الذي قدم مساهمات مقدّرة في تناوله لكثير من قضايا الواقع السوداني، يعلم أكثر من غيره أن الحرب الحالية، وما سبقها من حروب، هي تجلٍّ للفشل في معالجة الأزمة الوطنية المتراكمة منذ الاستقلال، وأنه ما من سبيل لعبور هذه الأزمة وطيّ صفحة الحروب إلا بمعالجة تلك القضايا بالحوار والتوافق، لا بالبنادق والخنادق. وفوق ذلك، فإن هذه الحرب قد أحدثت كارثة إنسانية تُعد الأسوأ في عالم اليوم، يتكبد المدنيون العزل تكاليفها من موت ودمار وتهجير قسري وانتهاكات، وهي تسفيه لأحلام شعب وتلاعب بمصير وطن. ولا يمكن للموقف الأخلاقي السليم أن يتسامح مع الذهول عن هذه الكارثة، لحين حلول لحظة “تهيئة شروط التفاوض” كما اقترح ـ وهي لحظة غير معلومٍ متى ستحل – بينما يمكن أن يتم التفاوض تحت ظلال السيوف ليكفي شر القتال وبوائقه، كما تشهد بذلك تجارب التاريخ الإنساني.وفي منحى آخر من الحوار ذاته، فإن محاولة الدكتور عبد الله تبرير إغفال الدكتور كامل إدريس، في أول خطاب له بعد تعيينه رئيساً للوزراء، لأية إشارة إلى ثورة ديسمبر المجيدة، بحجة أن الكلام عنها “مزعج” لأطراف كثيرة، خصوصاً الحركة الإسلامية، هو تبرير غير موفق من أي وجه .. والأنكى من ذلك أن الدكتور عبد الله وجّه تحذيراً غير مباشر، في سياق تبريره، حين تحدث عن “كِيفْ إنتَ بِترعى بقيدَك”، وهي عبارة عامية تدعو إلى التزام حدود معينة وعدم تجاوزها ـ في إشارة إلى الحدود التي ترسمها القوى المعادية للثورة ـ وكأنه يُلمِّح إلى عواقب تجاوز تلك الحدود، في ما يشبه التهديد باسم تلك القوى!!إن ثورة ديسمبر ليست جُرماً يُستوجب العقوبة، بل هي مفخرة السودانيين والمأثرة الأعظم في تاريخهم الحديث، وهي جذر المشروع الوطني في السودان المأمول. ومن دون الاعتراف بها وبقيمها وبالأهداف التي رفعتها، لا يمكن الحديث عن طيّ صفحة الحروب، أو عن سلام مستدام وتحوّل ديمقراطي حقيقي .. إن محاولة إرضاء القوى المعادية للثورة على حساب سرديتها، هو تراجع عن القيم والأهداف التي طالما أرْهَص بها الدكتور عبد الله نفسُهُ في كتبه ومقالاته.إنّ الكاتب المثقف، بطبيعته ودوره، لا يُتوقّع منه أن يستحسن استمرار “الرقصة الدامية”، ولا أن يدعو لدوام القتال الذي يجلب الموت والانتهاكات والتشريد والتدمير. وإذا كان الكاتب، كما أقرّ الدكتور عبد الله، لا يملك القدرة على تحديد متى تنتهي الحرب ولا يملك قرار إيقافها، فإن أقل ما يجب عليه هو ألا يدعو لاستمرارها، وأن ينهض لمواجهتها بالكلمة .. فالكلمة هي سلاح الكاتب، لكنها ليست سلاحاً للقتل، بل وسيلة للدفاع عن الحياة وعن المناقبية الأخلاقية. والمثقف، حين ينحاز للحرب بدل أن ينتصر للسلام، إنما يخذل الضحايا الذين لم يختاروا الحرب وويلاتها، بل فُرضِت عليهم دون أن يكونوا طرفاً في قرارها أو سبباً في اشتعالها، وأحالت حياتهم جحيماً دون ذنبٍ جنوه.يُحمَد للدكتور عبد الله علي إبراهيم إشارته التي تدل على امتنانه للدولة التي قال أنها انفقت عليه مالاً لبداً “في التعليم والتحصيل المعرفي”، وأنّ واجبه مقابل ذلك أن يفكر ويكتب .. ومع ذلك، فإن إفاداته الأخيرة عبر قناة “الجزيرة مباشر” تعيد طرح الأسئلة حول الدور الذي يُفترض أن يضطلع به الكاتب المثقف في زمن الحرب، وحول حدود المسؤولية الأخلاقية للكلمة حين تكون المآسي حاضرة في كل بيت والدماء تسيل في كل مدينة وقرية وشارع، وتستدعي بقوة الصرخة المدوية التي أطلقها الألماني برتولد بريخت ـ ضمنياً في إحدى قصائده ـ في وجوه رفاقه الشعراء وعموم المثقفين، باسم الأجيال القادمة: “ماذا كتبتم عندما كانت الدماء تسيل في الشوارع؟”.إن ما يعيشه السودان اليوم هو محنة إنسانية مروعة، مقرونة بتشظٍ وطني، وجرأة في البشاعة تفوّقت على الوحوش التي لا تقتل أقرانها لمجرد الابتهاج أو استنباط متعة منحرفة. ففي خلال الأيام القليلة الماضية فقط، انتشر مقطعا فيديو يهتز لهما كل ضميرٍ حي: مصابٌ أعزل يُدهَس بتلذذ تحت عجلات عربة عسكرية، وجمجمة بشرية تتقاذفها الأيدي مثل الكرة وسط الضحكات وعبارات السخرية .. ويتزامن هذا التوحش مع سيل لا ينقطع من أخبار النعي والمراثي لأولئك الذين قضوا في المواجهات، أو سقطوا ضحايا للاستهداف العشوائي، أو ماتوا بسبب تداعيات الحرب الممتدة من الكوليرا والعطش والجوع ونفاد المدخرات وضيق ذات اليد إلى رحلات النزوح المضني والانهيار الشامل لمقومات الحياة في المدن والقرى، حتى لم يترك بياض الأكفان مساحةً لبياض الورد الذي وزّعه رئيس الوزراء المعيّن في رحلة قدومه.في مواجهة هذه المحنة، لا خيار أمامنا كسودانيين ـ مدنيين وعسكريين، نخباً وجموعاً ـ سوى أن نُصغي لصوت العقل، ونتسلّح بالحكمة، ونغلب منطق الحوار على لغة العنف .. آن الأوان لوضع حدٍ لهذا الجنون وهذا النزيف، واللواذ بالحوار للتوافق على عقد اجتماعي جديد يُؤسِّس لوطنٍ يسع الجميع بشروط الحياة الكريمة. فالنجاة جماعية، والخلاص لا تصنعه البنادق ولا يأتي من الخارج، بل تصنعه الإرادة الوطنية بالتوافق، انطلاقاً من الإيمان بالشراكة المتساوية في الوطن العزيز.The post حول إفادات د. عبد الله علي إبراهيم appeared first on صحيفة مداميك.