إبراهيم برسيما إن أعلنت نشرة الأخبار تعيين “كامل إدريس” رئيسًا للوزراء، حتى تنفّست البيروقراطية قليلًا، لا فرحًا، بل كما يتنهّد مُشيِّعٌ وسط الجنازة حين يتذكّر أنه نجا مؤقتًا من القبر.لم يكن الرجل قد نطق حرفًا بعد، لكن البلاد كانت قد قرأت ملامحه كمَن يُعاد عليه درس الفقد القديم.رجلٌ من الخارج، محمّل بلغة المؤسسات، ناعم الصوت، حالم الملامح، يصل إلى بورتسودان كما يصل عالم تشريح إلى قاعة قتل جماعي: يُطلب منه أن يعيد ترتيب الجُثث، لا أن يسأل عمّن أطلق الرصاص.قيل إنها “حكومة الأمل”.والحقيقة أنها “حكومة التجميل”، في بلدٍ أصبح كل ما فيه قبيحًا لدرجة أن المرآة ترفض عكس صورته.الجنرالات يريدون إدارة الكارثة من خلف قناع مدني، والحركات المسلحة تطالب بوزارات كأنها تعويض عن سنين الثورة، والتيار الإسلامي لم يكن بعيدًا. تسلّل في بدلة تكنوقراط مفصّلة على مقاس الغنيمة، والدولة؟ الدولة تبحث عن جواز سفر.المشكلة لم تكن في التسمية، بل في الاسم نفسه: كامل. فالسودان لا يتحمّل الأسماء المطلقة. الكامل هنا ناقص بحكم التاريخ، مشكوك في قدرته بحكم الجغرافيا، ومهدد بالاستقالة بحكم الضمير، إن وُجد.كامل إدريس لا يمشي على الأرض. بل يتحرك في حقل ألغام من الطموحات الصغيرة المتنكرة في شكل مبادئ. يُحاصره الجيش من فوق، والحركات من الأطراف، و”الارتياب الشعبي” من تحت. رجلٌ اختير لأنه لا يُخيف أحدًا، ولا يملك حزبًا، ولا ميليشيا، ولا حتى ميكروفونًا يُدوِّي. اختير، لأنه مثالي بدرجةٍ تضمن فشله مسبقًا، إن حاول التفكير عكس رغبة الجنرال.كلما همّ بتشكيل حكومته، فوجئ أن الترشيحات تأتي جاهزة. “هاك دي وزارة الطاقة… بس المندوب دا من جماعتنا”، “خلي الدفاع علينا”، “والعدل؟ خليه لينا ننسّق مع الوكيل.” بدا الأمر كمن يُكلّف بترميم لحنٍ قديم دون أن يُسمح له بضبط النغمة.“أريد حكومة كفاءات”، قال.“نعم، ولكن لا تنسَ توازن القوى”، أجابه مناوي، أو لعله جبريل، بابتسامة من يعرف كيف يُهدد دون أن يرفع صوته.“لا محاصصة”، صرخ.“طبعًا، فقط تمثيل عادل لكل مَن يحمل سلاحًا أو يعرف رقم هاتف الجنرال.”في الليل، يقولون إن كامل إدريس يُحدّق في سقف غرفته طويلًا. يتأمل الفراغ الذي لم يأتِ منه الأمل. يتذكّر مكاتب جنيف، حيث يُهاب القانون، والمؤتمرات تُفضي إلى الفعل، وحيث الكلمات تُستعمل لا تُستبدل.واليوم، تُفرض عليه قائمة وزراء كأنها فاتورة عشاء لم يُدعَ إليه.قد يستقيل، يقول العقل.لكنه لن يستقيل، يقول الحصار.فالذي يُستعمل لا يُستقال.فالاستقالة تقتضي وجود إرادة، وهو بالكاد يمتلك هامش الحركة.والذي جُرّ إلى الميدان ليكون “الواجهة النظيفة”، لا يُسمح له بالخروج إلا بعد الانتهاء من العرض.لكن الاستقالة، كما يقول فلاسفة الإدارة، فعلٌ نبيل في زمن الرداءة، وجريمة في جمهورية اللا مخرج. لذا، سيبقى كامل… كاملًا في أوراق الدولة، ناقصًا في سلطة الفعل، ومعلّقًا بين خطاب القسم واستقالة مؤجلة.كامل إذًا ليس فردًا، بل استعارة.هو تجلٍّ ناعم لفكرة استُهلكت كثيرًا:أن السلطة يمكن أن تُغسل بما تبقّى من نشرة أخبار لم تكتبها المخابرات بعد.وأن يُستدعى رجلٌ من مكاتب الأمم ليكون توقيعًا أنيقًا في ذيل وثيقةٍ كُتبت بالبندقية.أما النبل في هذا السياق، فليس مقامًا أخلاقيًا، بل خللًا في التوقيت.والأمل، حين يكون مجرّد عنوان، لا يُشبه إلّا إعلانًا تلفزيونيًا عن عطر جديد في مستودع ذخيرة.هل سيشكّل الحكومة؟ ربما.لكنها ستكون حكومة بلا ذاكرة، بلا قدرة، بلا منطق.كحكومة حُفاة يُطلب منها إصلاح الأحذية، في بلدٍ لا يملك طريقًا أصلًا.The post حكومة الأمل تحت تهديد السلاح الأبيض… فهل تستقيل الدُّمى، أم أن العرض شارف على نهايته؟ appeared first on صحيفة مداميك.