بروفيسور/ مكي مدني الشبليتقديمالمفكرون هم الأشخاص المتمتعون بقدرة تحليلية ورؤية نقدية حُرَّة تجاه قضايا المجتمع والعالم، ويعتمدون في تفكيرهم على منهج عقلاني ومبني على المعرفة والخبرة. ولا يشترط أن يكون المفكرون أكاديميون بالضرورة، لكنهم غالباً ما يكونوا باحثين أو كُتَّاب أو نشطاء في مجالات الفكر والاقتصاد والسياسة والمجتمع، ولهم مساهمات معرفية تُسهم في تشكيل الرأي العام أو التأثير على السياسات. وفي سياق المبادرة لوقف الحرب وإعادة الإعمار في السودان، يُقصد بالمفكرين أولئك السودانيين أو المهتمين بالشأن السوداني، الذين لديهم سجل من الإنتاج الفكري أو البحثي أو التحليلي في قضايا الحكم والسلام والعدالة والتنمية والهوية، ويشاركون في الحراك العام، سواء عبر الكتابة أو التعليم أو المناظرات أو العمل المؤسسي والمدني. كما يُتطلَّب فيهم التمتع بالمصداقية والاستقلال عن الاستقطاب الحزبي الضيِّق.ويتميز المفكرون بقدرات على الغوص في عمق الأفكار وتحليلها وربطها بسياقات واقعية، بحيث يكون إنتاجهم الفكري مرتبطاً بحلول واقعية لمشكلات راهنة، أو تطوير نظريات أو رؤى جديدة. فالمفكرون ليسوا مجرد ناقلين للمعلومات أو مثقفين يوزعون الأفكار، بل هم المبتكرون لأفكار أصيلة ترتبط بواقع المجتمع السوداني وتساهم في تطويره. ويمكن أن يكون المفكرون علماء أو أدباء، أو فلاسفة أو مؤرخين، أو أصحاب أعمال أو قادة عسكريين إذا كان إنتاجهم الفكري ذا أثر ملموس في مجالاتهم.المفكرون – السياسيون – العسكريون – من يَفُكُّ شفرة الحرب؟على الرغم من تواجد المفكرين بين السياسيين والعسكريين إلا أنه يمكن الفصل بينهم وبين المفكرين المستقلين من خلال تحليل مجال اهتمام المفكر ودرجة استقلاليته الفكرية وطبيعة أفكاره المطروحة. فالمفكر السياسي يهتم بالحكم والسياسة، وغالباً ما يكون ملتزماً بأيديولوجيا أو نظام سياسي معين. والمفكر العسكري يركز على العسكرية والأمن، ويُعنى بتطوير الاستراتيجيات العسكرية. أما المفكر المستقل فيتميَّز باستقلاليته الفكرية، وعدم انتمائه لأي سلطة أو تيار، ويبني آراءه على المنطق والعقل.قضية السلام في السودان معقدة وعميقة الجذور، ولا يمكن القول إنها ظلت تُعالج على مستوى فئة واحدة فقط من المفكرين أو السياسيين أو العسكريين، بل كانت نتاج تداخل أدوار جميع هذه الأطراف، مع اختلاف في طبيعة مساهماتهم وتأثيرهم عبر الحقب المختلفة، ومن منهم يحظى بالقدرة على كسر حلقة الجمود.فمنذ الاستقلال في عام 1956 لعب المفكرون السودانيون دوراً جوهريَّاً في تشخيص جذور الأزمة السودانية واقتراح الحلول النظرية، باعتبار أن أزمة السودان ليست فقط سياسية أو عسكرية، بل هي أزمة بنيوية تتعلق بالهوية، وتوزيع السلطة والثروة، وإدارة التنوع الثقافي والديني. وقد قدم المفكرون رؤىً تحليلية معمقة حول أسباب النزاعات، وضرورة الاعتراف بالتنوع، وطرحوا حلولاً تتجاوز التسويات السياسية السطحية، لكن تأثيرهم ظل غالباً في دائرة النخبة أو في صياغة الخطاب العام، دون أن يتحول دائماً إلى سياسات عملية.أما السياسيون سواء في الحكومات المدنية أو العسكرية فقد ظلوا طرفاً أساسياً في التفاوض حول اتفاقيات السلام وصياغة السياسات الرسمية. بيد أن التجربة السودانية أظهرت أن الحكومات المدنية غالباً ما أخفقت في تحقيق السلام الشامل، بينما نجحت بعض الأنظمة العسكرية أو الشمولية في الوصول إلى اتفاقيات سلام، كما حدث في اتفاقية أديس أبابا 1972 في عهد نميري، واتفاقية نيفاشا 2005 في عهد البشير، وحتى اتفاق جوبا لسلام السودان 2020 فقد لعب فيه العسكريون الدور الأبرز، رغم وجود حكومة مدنية. ومع ذلك، كثيراً ما كانت هذه الاتفاقيات تعاني من تهميش المضامين الفكرية وطغيان الاعتبارات السياسية والهيمنة العسكرية، مما أدى إلى انهيارها لاحقاً.ذلك أن العسكريين في السودان ليسوا فقط منفذين للسياسة، بل كثيراً ما كانوا صانعين لها، إما عبر الانقلابات أو من خلال فرض رؤيتهم على العملية السياسية. مع الإقرار بأن تدخل الجيش في السياسة كان يتم غالباً بدعوة أو مباركة من بعض القوى السياسية، أو نتيجة لصراعات حزبية، مما أدى إلى عسكرة النزاع وتحويله إلى صراع مسلح طويل الأمد. وفي أحيان أخرى، كان العسكريون طرفاً أساسياً في التفاوض حول اتفاقيات السلام، لكن غياب المعالجة الجذرية للأسباب الهيكلية للصراع أدى إلى تجدد النزاعات.وعليه فإن السلام في السودان لم يُعالج جوهريَّاً على مستوى واحد فقط، بل ظل رهين تداخل أدوار المفكرين الذين شخصوا الأزمة وقدموا حلولاً نظرية، والسياسيين الذين فاوضوا ووقعوا الاتفاقيات، والعسكريين الذين فرضوا واقعهم بقوة السلاح أو شاركوا في الترتيبات الأمنية. لكن غياب الرؤية الشاملة والتنفيذ الجاد، وضعف الإرادة السياسية، وعدم معالجة جذور الأزمة البنيوية التي يُعظِّمها المفكرون، جعلت كل هذه الجهود قاصرة عن تحقيق سلام دائم.ومن ثم فإن فشل العسكريين والسياسيين في تحقيق السلام بعد حرب أبريل 2023 يعكس أزمة عميقة في القيادة والرؤية، الوقت مما يتطلب أدواراً جديدة، حيث يمكن للمفكرين المستقلين أن يلعبوا دوراً جوهريَّاً في بناء الوعي المجتمعي لا يقتصر فقط على تشخيص جذور الأزمة السودانية واقتراح الحلول النظرية، بل يتعدى ذلك بالانخراط في الممارسة العملية بتعزيز الحوار الوطني، بقيام النخبة الفكرية بتجاوز الاستقطابات الضيقة وتقديم وتنفيذ رؤى شاملة للمصالحة والعدالة الاجتماعية، مستندين على دعم الشباب والمجتمع المدني في لعب دور أكثر فاعلية في عملية التحول الديمقراطي وبناء الدولة المدنية، بدلاً من ترك الأمور في يد العسكريين والسياسيين الذين أثبتوا فشلهم في وقف الحرب وتحقيق وحدة السودان ووئام السودانيين.نداء الفكر والضمير لتحقيق السلام وإعمار السودان:نداء الفكر والضمير للسلام وإعمار السودان هو مبادرة مستقلة لمغادرة مربع الإحباط يقودها مفكرون وباحثون وأكاديميون وأصحاب عمل سودانيون من داخل البلاد وخارجها، بالتعاون مع مؤسسات فكرية وطنية، للضغط الأخلاقي والمعرفي على اللاعبين الرئيسيين في الفضاء السوداني من أجل وقف الحرب وتحقيق سلام عادل وشامل، وإرساء أسس راسخة لإعادة الإعمار مستندة إلى العدالة والضمير الحي والحوكمة الرشيدة. وتسعى المبادرة إلى أن تكون منبراً جماعياً للفكر النقدي والتصور المستقبلي، حيث يجتمع أصحاب الرأي والخبرة لمواجهة خطاب الحرب والاستقطاب، وصياغة مداخل سياسية وإنسانية وعملية للسلام، وإعادة بناء السودان على أسس ديمقراطية ومواطنية عادلة. وتعمل المبادرة على إنتاج بيانات ومواقف تحليلية جماعية تجاه تطورات الصراع، وتقديم رؤى فكرية تعيد توجيه الحوار العام نحو الحلول المدنية، وبناء تحالفات مع مؤسسات بحثية ومدنية محلية وإقليمية ودولية داعمة للسلام العادل، ومساندة للمبادرات السياسية والشعبية التي تعبر عن ضمير السودانيين التواقين للخلاص من الحرب وإعادة إعمار السودان، وبناء بلد يعيش فيه السودانيون باعتزاز. وبالتالي فالمبادرة ليست حزباً ولا كيان سياسي، لكنها منصة مستدامة للواعين من أبناء وبنات السودان – من الأكاديميين والمثقفين الناشطين والمهنيين والطلاب – الذين سئموا من سفك الدماء وانسداد الآفاق، وآثروا سماع صوت العقل والضمير، وطرح رؤى عملية ومغادرة مربع النزاعات والحروب، ببناء مستقبل يُعاد فيه إعمار السودان على أسس العدل والإنصاف.الكيانات التي يشملها النداءتضم مبادرة نداء الفكر والضمير طيفاً واسعاً من الأفراد والمؤسسات التي تتقاطع في الاهتمام الفكري والأخلاقي بالسودان، ويمكن تقسيمها إلى ما يلي:الأفراد:وهم الأكاديميون والباحثون السودانيون داخل البلاد وفي الشتات، والكُتّاب والصحفيون، ورُوَّاد الأعمال، والشخصيات العامة المعروفة بآرائها الفكرية المستقلة.مؤسسات الفكر:وتشمل مراكز الفكر والتميُّز ومراكز الدراسات والأبحاث السودانية والإقليمية والدولية، والمنصات الفكرية والثقافية المستقلة، ومنظمات المجتمع المدني ذات طابع الفكري أو الحقوقي، والشبكات الأكاديمية والمهنية، والمبادرات الشبابية التي تقدم رؤى تحليلية وتطرح أسئلة جوهرية حول المستقبل.شركاء داعمون محتملون:ويشملون المؤسسات الفكرية الإقليمية أو الدولية المهتمة بالسودان، والجامعات ومراكز الأبحاث المستضيفة للحوار الوطني المستقل والتحليل وصنع السياسات.إطلاق حملة “صحوة ضمير السودان”بعد دخول الحرب الفاجرة عامها الثالث بين طرفين غير مُفوضَيْن من الشعب، وبعد أن عرَّى الخراب جسد السودان – قتلاً ونزوحاً وإذلالاً، وانهياراً للدولة والمجتمع، وجب رَفْعُ المفكرين السودانيين نداء شعبي راسخ الإيمان بأن اللحظة تستدعي دوراً تاريخياً لضمير الأمة وعقلها الجمعي، بعدما فشل السلاح، وعجز السياسة، وتهاوي المبادرات. وسعياً لاستحواذ هذا النداء على الآذان الصاغية ينبغي توضيح أن القائمين عليه لا يأتون بديلاً لأحد، ولا طلاب سلطة أو وصاية، بل مستنهضين للمسؤولية والواجب الوطني بأن مستقبل السودان لا يمكن أن يُترك رهينة لصراع البندقية العقيم، ولا لجدال القنوات الفضائية الأجوف، ولا لمساومات الخارج المغرضة، بل يجب أن يعود إلى أهله السودانيين، عبر عقد اجتماعي جديد يتأسس على وقف فوري وشامل للحرب دون شروط مسبقة، وحوار وطني شامل يضع الضحايا والمهمشين في مركزه، لا في هامشه، ويُعيد بناء الدولة والوطن على أسس المواطنة والتسامح، لا المحاصصة أو الثأر. ذلك أن المفكرين يؤمنون بأن الأفكار الوطنية المستقلة المخلصة تُغيّر المصائر، وأن الشعوب لا تُهزم ما دامت تملك الوعي، ولو فقدت السيطرة آنيَّاًً.ويعلن المفكرون بهذا النداء الصدوق بداية تحالف وطني فكري وشعبي جديد، لا يسعى للحكم، بل لإنهاء الحرب، وفتح أفق للسلام العادل والدولة المدنية الديمقراطية. وسيكون النصر لا محالة حليف الفكر الملتزم لتعبيره العفيف عن وجدان الشعب، لا بالسلاح ولا بالمناورة، بل بالضمير اليقظ، والعقل الراجح، والوطنية الغيورة.*المدير التنفيذي – مركز مأمون بحيري، الخرطومThe post اسْتِنْهَاضُ المُفكِّريْن: مِن الفُرْجَةِ إلَى الرِيَادَة appeared first on صحيفة مداميك.