جمال محمد ابراهيم(1)في النظر للمواجهات العسكرية الجارية على وتيرة متصاعدة بين إسرائيل وإيران منذ 13 لا يونيو/ حزيران 2025، فإنّ من القصور الخاطئ أن نقـف على التطورات الماثلة وحدها، دون أن نقوم بزيارة للتاريخ القريب لجـذور ومسبَّبات هذه المواجهات. إنّ النظام السياسي الإسلامي القائم في إيران منذ عام 1979، قام ليستعيد بعداً حضاريا كان نظام الشاه “رضا بهلوي”، قد عمل على تغييبه والسّعي لفرض سياسة للـ “تغـريب” تعزّز روابط إيران بالحضارة الأوروبية الغربية، والتقليل من الأثر الإسلامي المتجذّر عميقاً في المجتمع الايراني. مدخل الثورة والانقلاب على نظام الشــاه، تولّاه الملالي بشعاراتٍ أعادت إرث البلاد الإسلامي ، مع الإبقـاء على الوجه الحضاري العميق للدولة الفارسـية القـديمة.منذ تلك اللحظات الأولى للثورة التي قادها الملالي بقيادة آية الله الخميني، كان أن أعلنت توجّهاتها على صعيدين أسـاسيين. تمثلت أولى تلك التوجّهات في الإعلان عن الطلاق عن الغرب بمدلولاته التاريخية الواسعة، وعن الولايات المتحدة تحديدا، تلك التي جعلت من نظام الشاه مخلباً ومنصَّة لنشاطها المؤثر ونفوذها المتحكّم في “الشـرقين” الأقصى والأدنى . عليه فقد كان طبيعياً أن تتبنّى الثورة الإيرانية شعارَ “مَرك بَـر أمريكـا”، باللغة الفارسية ويعني “الموت لأمريكا” ، شعاراً وعموداً رئيساً اعتمدته لسياستها الخارجية لسنوات طوال .أمَّا العمود الثاني فهو شعار انهاء المظلومية التاريخية للشعب الفلسطيني المسلم ، بما يعزّز انتماء الثورة الإسلامية للقضاء على الظلم الذي تقف وراءه الولايات المتحدة. عليه ، فقد اعتمد النظام الإيراني إسرائيل العدو الأول له والمرتبط بالداعم الأساسي لاسـتدامة تلك “المظلومية”، أما من صنفته بالعدو الثاني، فهو الولايات المتحدة الأمريكية وتسميه “الشيطان الأكبر”.(2)اعتمدت الثورة الإسلامية في إيران إضفاء شرعية لمناهضة “مظلوميات” برَّرتْ قيام الثورة التي قادها “آية الله الخميني” على نظام الشاهنشاه عام 1979. أولى تلك “المظلوميات” هي مظلومية خارجية تخصَّ الشّعب الفلسطيني وطرده من أراضيه لصالح إسرائيل، وثاني المظلوميات هي مظلومية داخلية تخصّ إيران والسيطرة عليها لتكون مخلباً للسياسة الأمريكية في المنطقة من أقصاها إلى أدناها. لم يفتْ على قادة الثورة الإيرانية، أنْ يلاحظوا اعتماد إسرائيل على استدامة بقائها يظلّ رهناً بالولايات المتحدة الأمريكية، أكثر من اعتماده على قدرات العـرّابين التاريخيـيـن الأساسيـيـن في أوروبا: ” مارك سايكس” و” فرانسوا بيكو” ، اللذين قـنَّـن اتفاقهما الشَّهير، أيلولة فلسطين لتكون دولة لليهود في قلبِ الشرق الأوســط.عليه فقد تلاقتْ الأجندات الأمريكية والإسرائيلية : إذ تواجه الولايات المتحدة سياسات إيران التي ناصبتها العـداء ودعـتْ لها بالموت، مثلما تواجـه إسرائيل سياسات إيران التي تعهّدت بالقضاء على “مظلومية” الشعب الفلسطيني، وبالتالي القضاء على إسرائيل. أما مساعي إيران خلال العقود الأخيرة لتخصيب اليورانيوم وبما عزز احتمالات امتلاكها للأسلحة نووية، فإنَّ اشتداد حدة العداء بين إسرائيل والولايات المتحدة من جهة، وإيران من جهة أخرى، هو ما قاد إلى الحرب التي اندلعت الآن.بعيداً عن المكر والاحتيال من جانب الولايات المتحدة وإسرائيل، فإنَّ تلك الحربَ لا يقدّر لها أن تنتهي خلال أيامٍ أو أسابيع، بل سيكتم العالم أنفاســه منتظراً اتساع تلك المواجهات التي قد تدفع العالم برمّته إلى حقبة حروبٍ نوويةٍ مدمِّرة، أوهي القيامة بعينها. ولا بدَّ من النظر بعمقٍ لطبيعة الخيارات المتاحة إزاء أجندات متقاطعة ومربكة ، وقد تجرّ أطرافاً بعيدة ستجد نفسها تقترب من جحيم مواجهات تستعر، بين أقوياء وضعفاء ، ولكن لا يعرف أحــدٌ أخيــارهم من أشرارهم. .(3)ولا بدّ من طرح السؤال على الطرف الأقوى في هذه المواجهات الماثلة، وهو الولايات المتحدة الأمريكية: إن كان هدفها من هذه الحرب التي تواطأت فيها مع الطرف الإسرائيلي، هو القضاء على المشروع النووي الإيراني فحسب، أم أنها تضمر هدفاً أبعد، وهو هدف إسقاط النظام الإيراني دفعة واحدة ..؟في التقدير أنّ الهدف الأقرب للإنجاز خلال الحرب الإسرائيلية الأمريكية المشتعلة ضدَّ إيران والذي تتفق عليه كل ٌ منهما ، هو هدف القضاء على المشروع النَّووي للجمهورية الإسلامية في إيران. لكلٍّ من الرئيسين الأمريكي والإسرائيلي أجندته الشخصية في الإسراع بتحقيق ذلك الهدف. الرئيس الأمريكي توَّاق لتحقيق مزاعمه عاجلاً لاستعادة العظمة الأمريكية، فيما الرئيس الإسرائيلي يبحث عن مخرجٍ من ملاحقات داخلية وخارجية تتهدَّد بقائه في كرسي الرئاسة الإسرائيلية. لكن يبقى الهدف الاستراتيجي الأبعد هو التخلّص من النظام الإيراني بكامله، وهو ما لا يملك الاثنان- نتنياهو وترامب- صبراً على تحقيقه. . يظل القضاء على المشروع النووي الإيراني، هدفاً قابلاً للتنفيذ العاجل، أما تغيير النظام، فهو الهدف الذي تشوبه تعقيدات ويتصل بتقييم عوامل وحسابات عديدة. قبل الاقدام على تنفيذ إجراءات تحقق مثل ذلك الهدف.إنَّ تغيير نظامٍ ظلَّ راسخاَ وثابتا منذ عام 1979، في دولةٍ لها من المشروعية والمؤسسية ما أبقاها على مدى جيلين أو ثلاثة ، ولها من المقوّمات السياسية والاقتصادية ما لها، لا تقارن بأيّ دولة قصيرة العمر، ضعيفة البنية والتاريخ، مزروعة في بيئة جغرافية وسياسية معادية لها، مثل دولة إسرائيل. لو كانت الخيارات تتصل بتبديل أنظمة حكم هشة ومصطنعة، لكان نظام تل أبيب من أيسر نظم الحكم التي يمكن تبديلها ، وليس نظام دولة متجـذِّرة في التاريخ لها حضارة تعود لآلاف السنين مثل إيران. The post إيران بين الشيطانين الأكبر والأصغـر appeared first on صحيفة مداميك.