ياسر عرمان(١)الثورة تلد ثورة أخرى وخلف كل ثائر ثائر جديد، لقد كانت ثورة ١٩٢٤ حلقة تربط بين ارث الثورة المهدية والوقائع الجديدة، كما ان نشأة اليسار السوداني ذات صلات وطيدة بهزيمة ثورة ١٩٢٤ والفراغ العريض الذي تولد في سبيل إيجاد منظمة كفاحية ضد الكولونيالية، والتاريخ حلقات متصلة ولا يمكنك النظر للأمام دون دراسة روابط الأمس وعلى سبيل المثال هناك عدد ليس بالقليل من زعماء اليسار ترجع شجرة نسبهم لثورة ١٩٢٤، دكتور عبد الوهاب زين العابدين عبد التام أول سكرتير للحركة السودانية للتحرر الوطني كان والده من قادة ثورة ١٩٢٤، وشارك في تكوين أول رابطة للأطباء التي تحولت لاحقاً لنقابة الأطباء، وكان سفيراً للسودان في جمهورية الصين ورائداً من رواد الفن التشكيلي وله لوحات في معارض عالمية، والقائد الكبير التجاني الطيب بابكر شارك والده بفاعلية في قيادة ثورة ١٩٢٤ في منطقة شندي، وقد أشار في مرافعته الشهيرة على أيام نظام النميري عن تأثير والده في الطريق الذي اتخذه، ودكتور عزالدين علي عامر أحد قادة مجموعة مصر ومؤسسي (حستو) والذي اصدر مجلة (امدرمان) في سنوات دراسته بالقصر العيني بمصر وبتكليف من (حدتو)، ذكر ان اسمه الحقيقي (علي عبد اللطيف) وأطلق عليه والده ذلك الاسم تيمناً بالزعيم علي عبداللطيف، وأهم قائد من قادة اليسار السوداني ومنظره الأساسي حتى ٢٨ يوليو ١٩٧١، الأستاذ عبد الخالق محجوب أطلق على المجلة التي أصدرها (الفجر الجديد) إحياءً لذكرى مجلة (الفجر) التي كان يصدرها عرفات محمد عبدالله احد قادة ثورة ١٩٢٤، ومعركة النهر الثانية التي قادها عبد الفضيل الماظ هي ابنة معركة النهر الأولى التي قادها الخليفة عبدالله التعايشي، وفي سباق المسافات الطويلة تتصل حلقات التاريخ.الثورة السودانية في الريف والمدن وفي مناطق الهامش والإنتاج الحديث منذ ثورة ١٩٢٤ وحتى ديسمبر ٢٠١٨ وربما قبل ذلك تتلاقى وتلامس قضايا جوهرية لا زالت عالقة.نضالات الفقراء والمهمشين في المدن والريف يجب التفريق بينها وبين القادة الباحثين عن السلطة والثروة فوق جثث الجماهير ولم يتجاوزوا أسوار الاحتجاج وقزموا انفسهم في الحواضن الاثنية، ولابد من حركة جماهيرية تتصل شرايينها وأوردتها في الريف والمدن.(٢)في عام ١٩٥١ أبعّد عبّده دهب عن مصر وانتهت رحلته الساحرة التي استغرقت ٢٠ عاماً أو ما يزيد قليلاً، ذهب لمصر طائعاً وباحثاً عن الجديد ووصل لوادي حلفا مكبلاً بالقيود يقوده عسس نظام الملك فاروق بعد اتهامات غليظة وجهت له عندما أرسلته (حدتو) لفلسطين لمعرفة ما يجري هناك، والتقى بالحاج امين الحسيني وبقولدا مايير وأبا ايبان وقدم تقرير يقف مع التقسيم وحل الدولتين، وتم القاء القبض عليه وسجن في جبل الطور في سيناء ذلك الجبل الذي مر عليه النبي موسى عليه السلام عابراً صحراء سيناء، ومر عنده عرفات ومحمود درويش وهم يعبرون إلى فلسطين بعد أوسلو على خطى النبي موسى.في ميناء وادي حلفا كان معه رفيقه تيدي لاركن جيمس من جنوب السودان وهو يساري مُبعد آخر، ووقع والد عبده دهب على الضمانة وذهب عبده دهب من وادي حلفا لامدرمان لمنزل أسرته في حوش العمدة الذي يجاور حوش ابو جبل والتقى بحسن ابو جبل وانطلقا معاً لمقابلة عبدالخالق محجوب، كان عبده دهب يود مواصلة التفرغ الحزبي ولم يستجب لطلبه لأسباب حرِية بالبحث والتوثيق. ذهب عبده دهب لابن منطقته الأستاذ داوود عبد اللطيف الذي ساعده بالتصديق لكافتيريا في ميدان عبد المنعم والتي أصبحت ساحة لتجمع المثقفين والمبدعين والتأثير في العمل السياسي، وقد ذكر الفنان الكبير محمد حسنين هذه الكافتيريا في احدى لقاءاته.قهوة عبده دهب تقع في منطقة استراتيجية في منتصف ميدان عبد المنعم (نادي الاسرة) وقد أقيمت فيه ندوة الأربعاء لعبد الخالق محجوب وصلاة الجنازة على الشهيد القرشي وموكب يونيو الشهير، ويقام فيه المولد النبوي الشريف، وعبده دهب من تجربته في مصر يعلم ان القهوة يمكن ان تكون نادياً للنشاط السياسي.دعم عبده دهب اضراب البوليس الشهير في الخمسينات مع زميله السر حيموره وحاول إعادة صلته بالحزب في وقت اضراب البوليس ولم يتمكن.بعد وقت على الرصيف أمضاه عبده دهب بعيداً عن العمل السياسي المنظم والتفرغ الحزبي دعم مجموعة عوض عبد الرازق وعبد القادر حسن اسحاق وحسين عثمان وني المحامي وسيد احمد نقد الله وأبوبكر عثمان محمد صالح وبدرالدين سليمان التي أطلق عليها (المنشفيك) ولم ينعزل عن العمل الجماهيري إذ شارك في عصيان ومظاهرات وادي حلفا وفي ثورة أكتوبر، وقد ذكر لي الأستاذ الراحل السر مكي في اسمرا وفي شرق السودان ان عبده دهب كان مهتماً بالحركة الشعبية لتحرير السودان وداعماً لرؤية السودان الجديد وأجرى حوارات عديدة مع الأستاذ السر مكي حولها.(٣)العلاقات السودانية -المصرية شغلت بال المثقفين والمفكرين والقوى السياسية في البلدين، وإقامة علاقات على توازن المصالح وامتدادات التاريخ والجغرافيا والثقافة كانت مدار حوار دائم واحياناً في عين العاصفة، فعلى أيام الملك فاروق ملك مصر والسودان ردد بعض الباشوات شعارات مثل (مصر والسودان لنا وإنجلترا ان امكنا) وهي نظرة خديوية بامتياز، وطرح اليسار المصري والسوداني شعار الكفاح المشترك بديلاً لها واستقلت (حستو) عن (حدتو) والآن تعود هذه القضية من جديد لواجهة الحوار الساخن مدحاً وقدحاً وتحتاج لحوار عقلاني قائم على توازن المصالح الاستراتيجية بين الشعبين والدولتين مسنوداً بالتاريخ والجغرافيا والثقافة والمصالح الفعلية.ذات مرة سأل الصحفي الكبير حمدي رزق الدكتور جون قرنق في أول زياراته لمصر إلى أي بلد تتبع حلايب؟! فأجاب قرنق إن حدود مصر في نمولي وحدود السودان في الإسكندرية، وهي نظرة لجوهر العلاقات المتكاملة والمتوازنة وتوسيع الفكرة والأفق في البحث عن حلول لقضايا الحدود والسيادة والمياه والموارد. قال محجوب شريف في قصيدته الموجهة لأحمد فؤاد نجم الفاجومي(قدامنا ننجز كم مهامتحرير وحرية وطعام).أطروحة الكفاح المشترك تحتاج لتطوير في اطار الوقائع الجديدة وان تمتد لكونفدرالية على النيل تضم دول حوض النيل وتضمن مصالحها بما ذلك السودان ومصر وإثيوبيا وتعطي نموذج لتكامل المصالح الأفريقية العربية واجندة الجنوب العالمي، اننا في ذكرى عبده دهب حسنين نحتاج لقراءة جديدة ولنفض الغبار وتجديد فكرنا في قضايا البناء الوطني والمصالح الإقليمية.(٤)الرئيس أنور السادات بعيداً عن سياساته كان وفياً لأصدقائه كما ورد في أكثر أحاديث الذين تناولوا سيرته، وسنوات الكفاح التي ربطته بعبده دهب لم تسقط بالتقادم، عندما صعد لمراكز السلطة، وحينما تولى رئاسة مجلس الأمة كتب له عبده دهب رسالة طالباً منه ان يرفع الحظر عنه ويسمح له بالعودة لمصر، استجاب السادات لطلبه وفي ١٩ مايو ١٩٦٩ استقل عبده دهب الطائرة من مطار الخرطوم لمصر التي احبها وناضل مع مناضليها، وفي مطار الخرطوم التقى بالأخوين احمد ومحمد عبدالحليم وهما في وداع اسرتيهما المتجهتان للقاهرة، ولأن لعبده دهب قرنا استشعار سياسية طويلة وهو المتمرس في العمل السياسي والقارئ للمناخ السياسي في الخرطوم ذلك الشهر وذاك العام، سأل الأخوين ماذا تفعلون، هل هنالك مصيبة قادمة؟ وجاءت المصيبة في ٢٥ مايو ١٩٦٩ بعد أسبوع من نبوءة عبده دهب.في القاهرة زاره أنور السادات في منزله بالقرب من استديو باريس واستغرب الجيران من رئيس البرلمان الذي يزور القادم المتواضع الجديد، وفي القاهرة تقاطر عدد كبير من عارفي فضله وسنوات نضاله منهم عبد الفتاح الهنيدي اخو امين الهنيدي وعبد الرحمن الخميسي وكمال عبدالحليم من رواد الثقافة والكتابة والفن والمناضلين الكبار، ان حياة عبده دهب نفسها تجسد الكفاح المشترك وقضايا التحرير والحرية والخبز وامال نهر النيل العراض من المنبع للمصب ، وأشواق شعوبها في الحرية والاستقلال.بعد ان أصبح السادات رئيساً لمصر قام بزيارة رسمية للخرطوم واستقبله الرئيس جعفر نميري وبعد نهاية البرنامج الرسمي تفاجأ نميري بان يطلب منه السادات لقاء المواطن السوداني عبده دهب، فهو لم ينسى أيام شبرا ومجاري الامطار، وحينما اتى اليه عبده دهب صاح قائلاً “يا اسود انت لسه حي ما مشيتش قرافة فاروق” ويعني مقابر فاروق.أمضى عبده دهب سنواته الأخيرة بعد أزمنة عامرة بالتضحيات وبصمات لا تخطئها العين في حركة اليسار السوداني والمصري اكدها هنري كوريل، ورحلة عبده دهب ووعيه المبكر بقضايا شديدة الخطر والتأثير لايزال يجري البحث عنها في عالمنا اليوم فهي رحلة جديرة بالتأمل والتوقف وهي جزء من رحلة جيله من المناضلين التقدميين الكبار الذين افنوا زهرة شبابهم ولم يستبقوا شيئاً، وحملت بعضهم اعواد المشانق ولم يبدلوا تبديلا.رحل العم عبده دهب حسنين في ٢١ مارس ١٩٩٨ بعد رحلة مجيدة ومحاولات دائبة في تغيير العالم وخدمة الناس وترك الحياة أفضل مما وجدها، ولا تزال أسئلة تطرحها رحلته تستحق التوثيق والإجابات من أجل غدً أفضل لبلادنا وسرديات جديدة للجنوب العالمي ومن أجل انتصار حقيقي للثورة السودانية.٣٠ يونيو ٢٠٢٥**ذكر خالد عبده دهب بناء على افادة من والده، ان رحلة عبده دهب للسودان لمقابلة البريطاني استوري كانت في عام ١٩٤٦ وليس ١٩٤٣ كما ذكرت مصادر أخرى.The post القبض على أخطر شيوعي متنكرا في زي بواب (3-3) appeared first on صحيفة مداميك.