يسمون الشعر غِناءً

Wait 5 sec.

مرام عليفي بلادنا البعيدة، حيث الرمال والشجر والغزلان والأرانب والثمار المدهشة والإنسان الفصيح، يسمون الشعر غِناءً، حين يقول أحدهم شعراً، يعبر عن ذلك بالغناء فيقول : غنيت هكذا : ويقول أبياته، وفي الأغلب تكون دوبيتاً ..في الأعراس تجتمع الأخوات، أخوات العريس وعماته وخالاته، وتنظم كل واحدة غناءً لأخيها العريس، فتتداول النساء ذلك الغناء : فلانة غنت لأخوها وقالت كيت وكيت ..لطالمنا أدهشتني هذه الفصاحة، كيف يتفق مجتمع على أن الشعر غناءً حتى لو لم يحوّل لألحان، ومن البلاغة الثاقبة في علم البيان حيث المجاز المرسل حينما تكون العلائق باعتبار ما سيكون، وما ألطف أن يؤول الشعر إلى غناء ..وفي عالم يخص النساء، ثمة أغنيات متداولة بالإعجاب، في كثير من الأحيان يتداولنها على أساس أنها مجهولة المصدر، بأجمل طريقة يُتكتّم بها على السر المأسور بالإعجاب والمحبة التي لا تريد شيئاً، ثم تنقله صديقة شفاهة وبالشفاهة يتجول شعر الإعجاب على ألسن النساء، وهنالك في البعيد، صديقة تكتمت على من نظمت الغناء،وثمة ما صارت من تلك الأسرار أغنيات حانية وبالغة الشجن يتغنى بها في الأعراس بالدلوكة تحت أنوار الرتاين ..أما الرجال فيصرحون بأغنياتهم، بالهيام والوجد والصبابة والتتيّم، ويترنمون على الرزان وعيون الصِيد واللقاءات المستحيلة، والتشبث بالأطياف، ويتحاور الأصدقاء بالغناء حين المناسبات العظيمة، مثل أن يجابه الرجل معركة مع عصابات النهب المسلح وينجو بعربته اللوري البرتكاني بتاع بوري تلاتة، ويغنين عليه النساء إعجاباً بالفَراسة،وليس أجمل في عيونهم من أن يكون الإنسان قوياً ثابتاً أمام العواصف ..يغنون للقمري مسادير الأشجان اللاذعة بالشجن فيقول هذا أبيات ويرد عليه آخر وهكذا تخرج للمجتمع مسادير تأسر الروح ..عن الترحال والرحلات إلى مضارب الحنين النائية ..هنالك الموسيقى تصنعها الأيدي وتترنم بها الحناجر، ويرتحل بها حادي الحدا، قاطعاً الأميال حافياً وهو يحدو ويحدو ويحدو، يحدو للإبل الرايقة والصحراء الممتدة، مستأنساً بألحان غرائبية للغاية وبالغة في العذوبة ..أريد أن أقطع أميال الحياة بالحدا والأغنيات الثاقبة البسيطة ..وأحب هذه البلاد، أحب إنسانها الغريب الذي كأنه منحدر من السماء، أريد أن أعرف كيف امتدت الأغنيات، وكيف للحناجر أن تصير أحن من آلات الموسيقى، وكيف رأى بدوي في عود قصب موسيقى، كيف تهندست الثقوب، وكيف عرفت الشفاه طريق الألحان، وأظن أن الإجابة هي الحوجة للجمال ..ولشد ما أحب الطمبور، لأنه أقاصيص، وحكم بديعة، وصوت يتناسق مع الرمال والنخل والجلاليب البيضاء ..وأفكر، أن الحكمة الإلهية قسّمت أرزاق الموسيقى والشجن على السودان في كل رقعة بما يتهرمن ويتتدوزن وينساب مع كل بقعة على حدة ..أنظر كيف قسم الله الأصوات على حناجر الأدروبات وأيادي الذين يغنون الجراري، تلك الأيادي الشاسعة التي بصمت عليها الزراعة والعمل الشاق، كيف دمغ الله الحنان في مغني الشوايقةكيف بحّت حناجر راقصين التويا، كيف بصم الشوق على صوت صالح الضي، والطوفان على صوت وردي، الرهافة النحيفة على صوت زيدان إبراهيم، الرحمة، الرحمة في صوت هاشم ميرغني، والأمل في صوت إبراهيم حسين، وكيف حطّت أجنحة الأكوان ومزامير الأصوات على روح محمود عبد العزيز !The post يسمون الشعر غِناءً appeared first on صحيفة مداميك.