السفير جمال محمد ابراهيمأسمعني صديقي المتوكل تسجيلا نادرا لأغنية من أجمل ما غنى أبو داؤود من كلمات الشاعر محمد علي أحمد، المصري البلد والهوى . حكت قصيدته عن عاشقٍ يسائل ماضيه دون جدوى ، وتضنيه الحسرة على محبوبة لم ترَ صدق مشاعره ، وأبكته تلك التي لم تحفل بعشقه وتودده.لمّا استولتْ القصيدة التي حملت ذلك الأسى، على مشاعر الموسيقار الفذ الرّاحل برعي محمد دفع الله، أتبعها من أوتار عوده، لحنـاً ســحرياً مُسكراً ، فهـزّ مشــاعر المتلقي بإبداعٍ العزف وبرعي أميره وأصــابعه تغنّي . جعـل الموســيقار البريـع كحروف إسمه – فلا يدرك من استعمره اللحن ، هل سـبق اللحـنُ الكلمات، أم انّ الكلمات هي التي استدعت اللحن فتنزّل سحرا . . أم أن الأغـنية ولـدتْ توأماً مــع القصيدة، فجاءت الكلمة رفق النغمة، والوتر أنطقه لسان الشاعر ، فاستوفى أبو داؤود وأكمل الإطراب ، بصوت الارعاد الرقيق وصخب اللحن الهامسأجل.. تجري أنامل الموسيقار بين أوتار عوده، جرياً خببا ليلاحق ما يتوهّمهُ عشقاً يتخفى عنه، يعلو ويهبط معه صوت المغني، فترى العاشق بعد أن عـبّ من خـمــر المحبّـة والعشــق كؤؤساً مُترعة تركته لا يملك من وعيه ما يعينه لإدراك ما حلّ بقلـبه وبعـقـله، فمن ترى ســقاه ، أم هـو نفـسه السّــاقي الــذي أضرمت الخـمـر ناروجده بنداءات لحبيبٍ غائب. . ؟ ثمّ أينَ المعشوقة وقد غابتْ فكأنها هي من ذابت ومافي الكأس إلا المعشوقة . . ؟سَــكِرَ السُّــمارُ في حان الغــرام. . عادني الوجدُ ، ثمَّ يئـن الوتر الطافح بالأسىثمّ جاءت هاجسات وخيالات الأماني تتداعى من أصابع الموسيقار الحاذقة أصابعه، في اقتفاء أثر الأحلام، من ماضيه الملتبس غلا تصل لمراميها. .هي همساتٌ ترفرف في المضجع، والوجد أعمى القلـب، لا يرى ولا يعــي ، فيستغرق الوتر، نفـورا واجتـذاباً ، ينازع أصابع الموسيقار البريع ، مُنازعة الريشة لألوان الزيت بيد رسام تتخلق لوحته بممازجة بين الرؤية والرؤيا ، فيتخلق الواقــع مختزلاً في لوحة. .ثمّ يأتيك استهلال العود بأوتارٍ راقصة ضوضائيـة ، لكأنّ الشــاعر والمُغـني يتهامسان، فيصغي الوترُ لنبرات الصوت هــدوءا صاخباً . ذلك وترٌ يهمـس بين ظنونه وكيانه لا يعي. .بينَ الماضي الذي انطوى بجراحاته ، كان ما كان وبقي التنائي بديلا ، والحاضر المحتشد بالأسى يسأل عن طبيب يداوي، فيكون السؤال نغماً ترسمه أصابع البرعي البريع. .عادني الوجدُ والوترُ يعود من علوّه ليهبط مستكيناً ، ولكن لهيب الشوق لا يكفّ عن السؤال : أينَ أنت أيها الغائب ، هل أنت معي. .؟ ، سؤال يردّده الوترُ، مرافقا لهفة مُغنّي ينتظر الغائب أن يستجيب.ذلك اطراب جاءني من صديقي د. المتوكل، فطـاب صباحي، إذ أسمعني “أنت معي..”فغاب الهمُّ والغم ..عادت بيَ الذاكرة إلى ما حكـى المبدع الرّاحـل علـي الـمـك في كـتـابٍ لهُ عن أبي داؤود، أن صديقهما المشترك الفنان التشكيلي المبدع حسين شريف ، حفيد الإمـام المهدي وهو الذي درسَ الرسم في كلية “سليد” اللندنية. كتـب المك أنّ كل مرّة يرقد حسين معلولاً فإنهُ يطلـب “أبا داؤود” ليرافقهُ ليعودا حسينَ معاً ، فإذا هو يشفى وينهض من رقدته نشــطاً، من محض أغنية “داؤودية”.لـو عاصــر المتنـبي “أباداؤود” في زمانه ، لما احتاج لمطارف أو حشايا تشـفيه من حُمّـاه. .رحم الله جميع من أبدعوا لهذا الوطن ، هو وطن أكبر من كل صغير استهدف عزّته ووجوده.The post هَل أنتَ معـي؟ إلى صديقي د. متوكل ابراهيم appeared first on صحيفة مداميك.