مرّ شهر على رئاسة دونالد ترامب الثانية، وحوّل البيت الأبيض هذه المناسبة إلى شبه احتفال من خلال إحاطته الصحافية التي شارك فيها ثلاثة من كبار مسؤوليه، من بينهم مستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي مايك والتز. وقدم الثلاثة عرضاً لحصيلة الشهر التي شددوا على تصنيفها في خانة "الإنجازات (المحلية والخارجية) غير المسبوقة" في مثل هذه المدة القصيرة. وفعلاً هي غير مسبوقة بنوعيتها وسرعتها وحجمها مع أن العملية ما زالت في بداياتها. أما وضعها في منزلة الإنجاز، فمسألة يدور حولها جدل واسع بين أغلبية متوجسة من عواقبها باعتبارها مجازفة "عشوائية" خطيرة، لكنها لا تملك القدرة على فرملتها ناهيك بوقفها، وبين الرئيس ترامب الذي لا يقوى أحد حتى الآن على الوقوف في طريق محدلته السياسية، والذي يصرّ على إدراج انقلابه في إطار الحركة الإصلاحية التي طال انتظارها. وبين الاثنين، تتواصل الفوضى وتبقى واشنطن معلّقة بانتظار المزيد من المفاجآت والصدمات.أطلق ترامب منذ دخوله البيت الأبيض، قبل شهر، عملية انقلابية في تركيبة وحجم ومهام أجهزة المؤسسات الفيدرالية، بحجة أنها متخمة بفائض من البيروقراطية "المكلفة وغير المنتجة" بما يقتضي التخلص منها بهدف تحسين الأداء وعصر النفقات لتقليص العجز في الموازنة، وتالياً في المديونية العامة. وشملت العملية، التي يشرف عليها الملياردير إيلون ماسك، وزارات ووكالات ومؤسسات موكولة إليها مهام حساسة في قطاعات التعليم والصحة والأمن ومصلحة الضرائب وأمن حركة النقل الجوي وغيرها من المؤسسات المركزية للدولة.وقبل يومين، جاء دور البنتاغون الذي لم يسلم من مقص التسريح الذي شمل، اليوم السبت، رئيس هيئة الأركان الجنرال مارك براون، وهو الجنرال الثاني من بين الأميركيين السود الذي شغل هذا الموقع. وحصل ذلك بالرغم من التحذير من دخول مقص التسريح إلى المؤسسة العسكرية قبل إجراء الدراسات اللازمة لمعرفة مدى تأثير التسريح، الذي سيشمل إلى جانب الجنرال حوالي 5400 من الطاقم المدني في وزارة الدفاع، على جهوزية القوات المسلحة. وهذا ما كان ينبغي أن يحصل، حسب المعترضين، قبل الشروع في العملية ككل لتقليص الجهاز الإداري الفيدرالي الهائل (أكثر من مليوني موظف) بحيث كان من الأنسب أن يأتي تشذيبه وفقاً لمقتضيات الإصلاح المنشود والرامي إلى وقف الهدر في الإنفاق، الذي لا ينكر أحد وجوده وإن بحدود معينة كان يمكن معالجتها بغير هذه الطريقة.وفي الاعتقاد السائد لدى الذين قرعوا جرس الإنذار من مغبة التمادي في هذا التوجه، أن العملية في جوهرها هي مزيج من تصفية حسابات إضافة إلى أنها محاولة لذر الرماد في العيون ومقدمة لمشروع "خفض ضريبي كبير يعتزم ترامب إحالته إلى الكونغرس (ذي الغالبية الجمهورية التي تضمن إقراره) يستفيد منه كبار الأثرياء والشركات الكبرى"، عملاً بوعد ترامب إبان الحملة الانتخابية. وفي أي حال، ليس من المتوقع أن يعيد الرئيس النظر في حملة ماسك، ولو أنها بدأت تنعكس هبوطاً في رصيده العام وفق آخر الاستطلاعات.ولا يقل أهمية عن هذا الجانب ما كشفته تجربة الشهر على صعيد السياسة الخارجية وبالتحديد في ملف حرب أوكرانيا. فتعاطي الإدارة مع الملف في الأيام الأخيرة طرح أكثر من علامة استفهام في واشنطن، وبخاصة في صفوف الجمهوريين الذين لم يخف بعضهم ذهوله مما حسبوه انحيازاً فاقعاً لصالح موسكو وفلاديمير بوتين على حساب أميركا وحلفائها الأوروبيين. وبدأ ذلك في ميونخ، الأسبوع الماضي، بخطاب نائب الرئيس جي دي فانس الذي ألقى بالملامة على الأوروبيين، وكذلك في كلمة وزير الدفاع بيتر هيغسيث حيث طالب أوكرانيا مسبقاً بوجوب التنازل عن الأراضي التي احتلتها روسيا مع الوقوف ضد قبول انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي "ناتو" ضمانةً أمنيةً لوقف الحرب.ومن ثم توالت التساؤلات مع استبعاد كييف عن المشاركة في محادثات الرياض بين واشنطن وموسكو حول موضوع الحرب، وزاد من التهاب الموقف التراشق بين ترامب والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، والذي انطوى على انحياز أميركي صريح ضد أوكرانيا وعلى تهديد مبطّن بإمكانية "خسارة زيلينسكي بلاده" مع تحميله مسؤولية "شن الحرب" خلافاً للمعروف. بالنهاية، تبيّن أن حملة البيت الأبيض هذه جاءت في سياق الضغط على زيلينسكي لحمله على الموافقة على مشروع أميركي لاستثمار الثروة المعدنية الهائلة في أوكرانيا مناصفة، وكان هذا الموضوع محور محادثات المبعوث الأميركي الخاص بحرب أوكرانيا الجنرال المتقاعد كيث كالوغ، الذي قضى اليومين الأخيرين في العاصمة الأوكرانية والذي يبدو أنه حصل على قدر من التجاوب في هذا الخصوص من جانب زيلينسكي بما انعكس تراجعاً في حدة خطاب الإدارة ضده، وكأن الإدارة تعتمد مبدأ المقايضة المسبقة في سياستها الخارجية بحيث تسعى مع الرئيس بوتين للتوصل إلى حل مقبول يقدمه لأوكرانيا. علماً أن التباين والتوتر بين واشنطن وكييف مع الأوروبيين قد أعطى المبادرة لبوتين، وزاد من تعقيد الوضع، وبالتالي من خطر إطاحة احتمالات الحلحلة في المدى القريب. خاصة أن موسكو ستبني سياستها على أساس أن إدارة ترامب سائرة باتجاه سدّ حنفية التسليح لأوكرانيا، حسب تقديرات المراقبين.ما قامت به إدارة ترامب حتى الآن يسمح بتصنيفها أنها رئاسة تفكيك مفتوح الأفق، ولا يقوى أحد في واشنطن على الوقوف في طريق محدلتها المندفعة محلياً وخارجياً في هذا الاتجاه.