اعتبرت وزيرة التربية والتعليم العالي القطرية، لولوة بنت راشد الخاطر، أنّ ثمّة جفوة بين دوائر صنع السياسات وبين المثقّف العربي، مضيفةً أنّ المنطقة العربية والعالم يعيشان زمن موت الأفكار الكبرى والدخول في نفق التشظّي المعرفي والأخلاقي.وتناولت الخاطر، في محاضرة قدّمتها مساء أمس الثلاثاء في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" في الدوحة، في ختام النسخة الرابعة من "موسم ندوات"، سؤال: "هل للفكر مكان في زمن الشركات الاستشارية؟".وفرّقت المحاضِرة بين ثلاثة أنماط من المؤسّسات؛ هي: "بيوت الخبرة" أو "الشركات الاستشارية" Management consultancies و"مراكز العقول" Think tanks و"مراكز البحوث" Research centers، موضّحةً أنّ الأُولى هي كياناتٌ ربحية تجارية، وإن حاولت أن تظهر بلبوس تقديم خدمات تتجاوز الجانب الربحي، كما أنّها تُقدّم الخدمات لجميع القطاعات (الحكومية والخاصّة وما يُسمّى القطاع الثالث).أمّا "مراكز العقول"، فتُوضّح الخاطر أنّها ليست ربحية، وهي تبحث عن الدخل للاستدامة، لكن لديها ضوابط أكثر بكثير من الشركات التجارية في ما يتعلّق بالدخل، كما أنّها تحصر أنواع البحوث عندها في ما يتعلّق بصنع السياسات والتأثير على دوائر صنع القرار؛ فهي، على سبيل المثال، لا تُقدّم بحوثاً للشركات التجارية، بل تُقدّمها إمّا في الفضاء العام أو للحكومات والمؤسّسات الرسمية، ولها مساحات مختلطة مع "مراكز البحوث".تطرح الخاطر سؤالاً عن مكان الفكر في زمن الشركات الاستشاريةوحسب الخاطر، فإنّ "مراكز البحوث" غير ربحية غالباً، وهي مرتبطة بمؤسّسات أكاديمية وبمؤسّسات التعليم العالي، وتبحث عن الدخل من خلال مصادر تمويل البحوث، ولكنّها ليست معنية بالضرورة بسياق السياسات والجوانب التطبيقية.وفي استعراضها لتاريخ الشركات الاستشارية، أشارت لولوة الخاطر إلى أنّ فكرة تقديم المشورة كانت حاضرةً عبر التاريخ، أمّا تنظيمها مؤسَّسياً في كيانات متخصّصة فبدأت بذوره في القرن التاسع عشر، لافتةً إلى أنّه، وبعد الكساد الكبير عام 1929، بدأت الثقة تقلّ في قدرة المؤسّسات المالية على إدارة المشهد بمفردها، وهو ما أعطى دفعة كبيرة للاستعانة بمزيد من الخدمات الاستشارية في المجال المالي خصوصاً وفي مجال الاستراتيجيات عموماً.وشهدت حقبة الثمانينيات والتسعينيات الانطلاقة الجديدة الكبيرة مع نشوء ظاهرة خصخصة القطاع العام أو نقل الأنماط الإدارية من القطاع الخاصّ إلى العامّ مع بروز العولمة، وشهد سوق الشركات الاستشارية قفزات هائلة في العشرين سنة الأخيرة، وفق الخاطر.وذكرت المتحدّثة أنّ الشركات الاستشارية استقطبت خرّيجي جامعات الصفوة، مع الاستعانة المؤقّتة بالخبراء في مجالات محدّدة، مضيفةً أنّ الشركات الاستشارية لعبت دوراً محورياً في نشر الأنماط الإدارية الجديد (البيروقراطية) آنذاك؛ إذ صعدت في الثمانينيات سردية فشل القطاع العام ونجاح القطاع الخاص، كما أسهمت ثورة الاتصال والمعلومات في نشر الأنماط الإدارية الجديدة من سياق إلى آخر، ومن قطاع إلى آخر.نعيش زمن التشظّي المعرفي والأخلاقي وموت الأفكار الكبرىأمّا الأدوار التي تلعبها الشركات الاستشارية، فتتمثّل في شرعنة السياسات والقرارات والمقترحات، والقيام بالمهام والوظائف اليومية. وحدّدت الخاطر خمسة تحدّيات مُصاحبة للاستعانة المفرطة بالشركات الاستشارية، تشمل هجرة العقول، وضعف الذاكرة المؤسسية، وإحلال هذه الشركات بديلاً عن بناء القدرات المؤسّسية والكفاءات البشرية، إضافةً إلى ضعف المساءلة والمسؤولية وضعف الولاء للمؤسّسة وما تُمثّله من أهداف وقيم.وعن مكان الفكر العربي ممّا سبق والعلاقة بين المفكّر العربي ودوائر صنع السياسات، قالت: "هناك جفوة بين دوائر صنع السياسات وبين المثقّف والمفكّر العربي، وهذه ظاهرة لا بدّ أن نعترف بها، نحن، في المنطقة العربية والعالم، نعيش في زمن موت الأفكار الكبرى والدخول في نفق التشظّي المعرفي والأخلاقي، شارحة: "إذا أراد أحد طرح فكرة أو مشروع أخلاقي أو إنساني يضطرّ لتغليفه بحجج براغماتية ونفعية".واعتبرت أن المثقّف العربي والباحث العربي والمفكّر العربي أيضاً منفصل عن الواقع، وضربت مثالاً عملياً، حول كمّ المقترحات التي يقدّمها عدد من الباحثين أو المفكّرين أو المثقّفين لصانعي القرار، وعندما يُقدّم أحدهم المقترح وكأنّه قد "أتى بما لم تستطعه الأوائل"، فيكتشف أنّ المقترح هذا شبع طحناً وخبزاً وعجناً وأكلاً آلاف المرّات قبل ذلك، أي لم يأت بجديد، وهذا الباحث، المفكّر، المثقّف، لم يكلّف نفسه لدراسة الواقع أو السياقات المختلفة وغيرها، ورأت أنّ انفصال كثير من المثقّفين والمفكّرين عن الواقع مسألة تحتاج إلى إعادة النظر، فصانع القرار يحتاج أيضاً إلى أفكار قابلة للتطبيق.وفي ردّها على أسئلة عدد من الحضور، أكّدت أنّ استقطاب الكفاءات والخبرات بشكل أكثر استدامة، واستبقاءها في المؤسّسات سيساعد على البناء وعلى التراكمية وعلى المحافظة على الذاكرة المؤسّسية، بعيداً عن الشركات الاستشارية.وشهدت النسخة الرابعة من "موسم الندوات"، الذي نظّمته وزارة الثقافة القطرية بالشراكة مع "جامعة قطر" و"المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" و"معهد العالم العربي" في باريس، سبع ندوات وورشة تدريبية، بمشاركة عدد من الخبراء والمثقّفين والمفكّرين والأكاديميّين من داخل قطر وخارجها، لتتكامل الرؤى من أجل إيجاد مقاربات وأطروحات مستنيرة حول جدليات الثقافة والفكر وتحدّيات العلاقات الحضارية المعاصرة والتغيرات الاجتماعية، وغيرها من الموضوعات الثقافية والقضايا الفكرية الراهنة.