أن تعيش شهر شباط هذا العام في لبنان، يعني أن تعيش بين الأضداد والمتناقضات... أن ترى محتفلين ومحزونين، عائدين إلى الحياة السياسية ومغادريها... أن ترى حكومة جديدة تتشكل بهيئة ومضمون مختلفين، وتنال ثقة مجلس النواب. في خضمّ هذه الأحداث، اخترت هذا الشهر أن أكون متفرّجة، أراقب الوضع كما لو كنت أخوض تجربة أنثروبولوجية، لم أكتب أي مادة أو حتى منشور حول هذه الأحداث قبل الآن.شاهدنا مشهدين أقل ما يُقال عنهما أنهما مختلفان؛ أحدهما يعلن عودة العمل السياسي، احتفالًا شعبيًا بـ"سقوط الأسد" وتحقيق "العدالة"، والآخر تشييع لزعيم سياسي وديني كان الحاكم الفعلي في لبنان لمدة تزيد على عقدين، ولعب دورًا أساسيًا في الدفاع عن النظام السوري السابق.بهذا التشييع المهيب، نختتم صفحة الأمين العام السابق لحزب الله، الرجل الاستثنائي في تاريخ الحزب، حسن نصر الله، الذي من المرجّح أنه لن يتكرّر. ويقول الأمين العام الحالي الشيخ نعيم قاسم: "لن تأخذوا منّا بالسياسة ما لم تستطيعوا أخذه في الحرب"، ولكنه يؤكّد دور الدولة، بينما يعطي نواب حزب الله الثقة لحكومة نواف سلام التي تمثّل العهد الجديد برئاسة الرئيس جوزاف عون، والذي شدّد في خطاب القسم على حصر السلاح بيد الدولة، الأمر الذي أكّده سلام أيضًا.أرى مشهد بكاء النساء والرجال، وزحفًا ضخمًا وكبيرًا لتشييع شخصية وازنة في العالم العربي. مئات الآلاف اجتمعوا في الرثاء الأخير لنصر الله تحت شعار "إنّا على العهد". أتنقّل بين طريق مطار لبنان، المعروف بمطار رفيق الحريري الدولي، لأرى صور نصر الله وخليفته هاشم صفي الدين وأعلام حزب الله على طول الطريق، ثم أصل إلى وسط بيروت حيث ما زالت صور ذكرى رفيق الحريري معلقة. أمّا في الأشرفية ومناطق أخرى في بيروت، فتجتاحها صور الرئيس الجديد جوزاف عون.أقيم تشييع نصر الله في المدينة الرياضية التي تُعرف بمدينة كميل شمعون الرياضية، كما أصرّت إحدى القنوات اللبنانية على التذكير طوال مدة نقلها للتشييع، لكن المفارقة أنّ كميل شمعون (الحفيد) لم تبلغه دعوة تشييع نصر الله!في المقابل، وككل عام منذ عشرين سنة، أُقيمت فعاليات في 14 شباط/فبراير لإحياء ذكرى اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري. ولكن المختلف هذا العام عودة نجله سعد الحريري، بعد أن اعتزل العمل السياسي لمدة ثلاث سنوات، وبعد أن ذاق ويلات السياسة اللبنانية، وخصوصًا من خصمه الأساسي حزب الله. يعود الحريري الابن دون أن يصرّح أين كان، وماذا فعل في هذه الغيبة، ولماذا قرّر العودة، وما شكل العودة التي يتحدّث عنها.عاد بمشهديّة جماهيرية يوصل فيها إلى الصديق قبل العدو، أنه لا توجد شخصية أو قيادة سنيّة استطاعت أن تأخذ مكانته داخل الشارع السني، رغم ضعف قيادته آنذاك، ولا حتى شقيقه الأكبر بهاء الذي أتى بحملة إعلانية وإعلامية ضخمة منذ بضع سنوات واستثمر مبالغ طائلة، حتى اكتشف أخيرًا أن محاولاته في جذب الشارع السني باءت بالفشل. ولكن، لماذا لم ينجح الأخ الأكبر في ما نجح به الأخ الأصغر؟ إنها ظاهرة غريبة بالفعل! عاد يحتفل بـ"العدالة" بسقوط نظام الأسد، ويقول: "منذ 20 سنة في هذه الساحة، طلبتُم بالعدالة وبإرادتكم أُخرج نظام المجرم بشار الأسد من لبنان، وبعد 20 سنة وقبلهم 30 من الحكم الطائفي، من المعاناة، من الظلم والقتل والاعتقال والوحشية، قام الشعب السوري البطل وطرد المجرم من سورية. يمكن هذه بداية العدالة ويمكن هذه نهايتها، وبالحالتين شفتوا كيف إذا ما أنصفتنا عدالة الأرض، عدالة رب العالمين ما حدا بيهرب منها".أما عن تناقضات شهر شباط، فجاءت مشهدية الاحتفال بعودة تيار المستقبل إلى العمل السياسي وسقوط نظام الأسد قبل نحو أسبوع من تشييع الأمين العام السابق لحزب الله السيد حسن نصر الله في 23 شباط/فبراير، وبعد عقدين من هزيمة شارع تيار المستقبل منذ اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري في 14 شباط/فبراير 2005.جاء تشييع نصر الله، رغم ضخامته، هادئًا منظّمًا خاليًا من الرصاص الطائش، مظاهر الاستقواء، الشعارات الطائفية التقسيمية، وكان خطاب الأمين العام الجديد مخاطبًا للدولة اللبنانية، خلافًا للفترة الماضية التي استهتر فيها الحزب بدور الدولة. أمّا الحكومة اللبنانية الجديدة فنالت الثقة في 25 شباط/فبراير. غريب شهر شباط هذا العام، الذي كان الأكثر بردًا في هذا الشتاء، والأكثر غرابةً، ثلج وبرد وذكرى اغتيال وتشييع وجدار صوت وغارات في الجنوب وطيران حربي إسرائيلي في تشييع نصر الله وأناشيد سياسية متضاربة ولافتات سياسية وأعلام متنازعة... وحكومة جديدة. أقصر شهر في السنة، لكنه بلا شك أكثر الأشهر غرابةً وتناقضًا، ولكن لطالما كانت الغرابة والتناقض إحدى أبرز سمات هذا البلد.