أحجار على رقعة غزة

Wait 5 sec.

انتهت جولة الصراع الأخيرة بين فصائل المقاومة الفلسطينية وبين جيش الاحتلال الإسرائيلي، أقول: انتهت الجولة ولم تنتهِ الحرب؛ فالحرب مستمرة، لكنها اتخذت صورًا أخرى، فهذه المساومات المستمرة ضمن اتفاق وقف إطلاق النار طويل الأجل، تمثل حربًا أخرى، بل إن تنفيذ الاتفاق في حد ذاته يحتاج إلى ضبط نفس وتخطيط ومراوغة لا تقل عن الحرب نفسها، خصوصًا مع وجود هذه الحكومة اليمينية المتطرفة في سُدّة الحكم في تل أبيب.وأضف إلى ذلك دخول الرئيس الأميركي رونالد ترامب على الخط، بكل تصريحاته ومراوغاته واستعراضاته الإعلامية.أما نحن في عالمنا العربي الكسير، فلا يزال الجدال مستمرًا (كالمعتاد)، لكنه يتمثل في صورٍ أخرى، فقد صار جدالنا، بعد توقف المعركة العسكرية على أرض غزة، حول هل ما حدث كان انتصارًا أم هزيمة أم ماذا؟طبعًا، لا ننسى أننا العرب ملوك الجدل العقيم، ولله الحمد!أنا شخصيًا لا يمكنني أن أعتبر ما حدث انتصارًا مع سقوط ما يقرب من خمسين ألف شهيد فلسطيني، وأكثر من مائة ألف جريح، ناهيك عن التدمير الفعلي الذي طاول قطاع غزة قاطبةً، وجعله مكانًا غير صالح للعيش.ومع ذلك، أجد أنّ المقاومة الفلسطينية قد قامت بواجبها العسكري أثناء المعركة على أكمل وجه، وكانت على قدر المواجهة التي أشعلت شرارتها صبيحة السابع من أكتوبر/ تشرين الأول عام 2023، ولا تزال تقوم بمناوراتها بشكل جيد في صفقات تبادل الأسرى الجارية.وأظن أنّ الموضوع لا يُقاس بالطريقة العربية في التفكير، طريقة الحدّية المتناهية، إما نصر أو هزيمة، فهذا غير ممكن، ومَن يطلب من فصائل المقاومة أن تهزم جيشًا نظاميًّا تدعمه دول كبرى، فهو يطلب المستحيل.قد يقول قائل: ما دامت فصائل المقاومة تعرف أنّها غير قادرة على هزيمة جيش الاحتلال، فلِمَ خاضت هذه المنازلة غير المتكافئة؟أجيب: لم تقل الفصائل إنّها تريد هزيمة جيش الاحتلال، لكنها حرّكت المياه الراكدة في المنطقة، التي اعتبرت قضية فلسطين في طي النسيان، أو بعبارة روجر كوهين، المحرر في صحيفة نيويورك تايمز، "إنّ العديد من الإسرائيليين افترضوا أنّ القضية الفلسطينية أصبحت ميتة، وأنها اختفت من جدول الأعمال العالمي".أو ما قاله جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي الأميركي السابق، في سبتمبر/ أيلول 2023م: "منطقة الشرق الأوسط أصبحت اليوم أكثر هدوءًا مما كانت عليه طوال عقدين من الزمان".فكانت معركة طوفان الأقصى التي هزّت المنطقة كلها، بل العالم، وذكّرتهم بالقضية الفلسطينية.أما عدم التكافؤ، فقد فنّدنا ذلك في مقالات سابقة كثيرة، وقد أخبرتنا وقائع الأرض كيف صمدت المقاومة طوال أيام المعركة التي تُعد أكبر الجولات بين المقاومة الفلسطينية وجيش الاحتلال، من حيث الوقت (أكثر من 470 يومًا)، ومساحة الصراع (فقد شمل قطاع غزة وتوسع إلى لبنان واليمن)، وكذلك حجم الدمار والخسائر.غزة وخطة ترامباليوم، نحن أمام وضع جديد للقضية الفلسطينية، ولا أظنها ستظل كما هي بعد كلّ هذه الملاحم والآلام.من هذا الجديد، تصريحات الرئيس الأميركي رونالد ترامب وخطته المزعومة للسيطرة الأميركية على أرض غزة، وتهجير الفلسطينيين منها بحجة أنها لم تعد مكانًا صالحًا للعيش!الذي يقول هذا الكلام هو المنادي بحلول السلام في الشرق الأوسط؛ لأنّ كل الأطراف هناك، بحسب زعمه، يريدون السلام بمن فيهم رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو!حسنًا، سيادة الرئيس، لدي سؤال: مَن الذي جعل من أرض غزة مكانًا غيرَ صالحٍ للعيش؟!وما حجة أميركا للسيطرة على أرض غزة؟أظن أنّ حب الاستحواذ الذي انتاب الرئيس ترامب فور تسلمه السلطة في الشهر الماضي، قد أمدّه بخيالات واسعة، فصرّح بضم كندا إلى الولايات المتحدة الأميركية، ثم استرجاع قناة بنما، وكذا ضم جزيرة غرينلاند الدنماركية، وها هي غزة على المنوال ذاته.يبدو أن صنم الإمبريالية الاستعمارية لا يزال منصوبًا إلى جوار تمثال الحرية، لكننا لا نراه!أو لعله الصنم نفسه؟سيادة الرئيس ترامب:إنّ أهل غزة لم يُهجّرهم الموتُ الذي ظلّ يتساقط على رؤوسهم طوال 470 يومًا، وهم يتنقلون من شمال القطاع إلى جنوبه، فهل تراهم ينصاعون لخطتكم؟أليس من مبادئ الديمقراطية، كما تؤمنون بها، أن تشاوروا أهل الشأن حول تهجيرهم؟ بدلًا من التصريحات حول إلى أين سيكون التهجير؛ إلى الأردن أم مصر أم السعودية؟أزعم أنّ ساسة الغرب لم يعرفوا هذا الشعب الجبار أبدًا.إنّ الفلسطينيين الذين عادوا إلى جباليا بقططهم وابتسامتهم على الرغم من معرفتهم بأنّهم يعودون إلى أرض لم تعد صالحة للحياة، هل تراهم يقبلون التهجير؟بعد قذائف بقدر قنبلتين ذريتين، هل ترى "ستفرق" مع أهل غزة دعاوى تهجيرهم؟!هذا شعب لا ينكسر، لأنّه شعب يحب الحياة، كما قال محمود درويش:وَنَحْنُ نُحِبُّ الحَيَاةَ إذَا مَا اسْتَطَعْنَا إِلَيْهَا سَبِيلًا.وهم يشقّون هذا السبيل إذا لم يكن موجودًا، بل ويخترعونه اختراعًا.إنّهم الشعب الحي وسط هذا الموات المسمى الوطن العربي الكسير!وليس مرور السنوات والحروب إلا مبردًا يصقل هذا الشعب الجبار.فيا أيها الغرب:أنتم تحاربون أناسًا لم يعد لهم شيءٌ يخافون أن يخسروه.الخوف الحقيقي سيكون على بقية سكان المنطقة العربية الودعين، الذين لا يزالون يلهثون خلف مبارياتهم وأغانيهم وملذاتهم التي لا تنتهي!