في مشهد سياسي نادر، تكلّم الملك الأردني أمام حشد من المتقاعدين العسكريين، محذرًا من أولئك الذين يأخذون أوامرهم من الخارج. الجملة كانت واضحة، لكنها كانت كاشفة أكثر ممّا توقّعها البعض. فبدل أن تُعامَل باعتبارها تحذيراً عامّاً، تلقّفتها بعض الأطراف كمرآة عاكسة، وانطلقت مسرعة لتبرئة نفسها من تهمة لم توجّه إليها مباشرة. لماذا تهتزّ بعض القوى عند سماع كلمات لم تُذكر باسمها؟ وهل يكفي تغيير الخطاب السياسي ليُعاد رسم خريطة الولاءات؟لم يكن في حديث الملك اتهام مباشر لأي جهة، لكنه كان كافيًا لإحداث ارتباك في أوساط حركة الإخوان المسلمين في الأردن، التي سارعت إلى طلب لقاء ملكي، وكأنها تريد إعادة تعريف موقعها في المعادلة الوطنية. تغيّر الخطاب فجأة، وكأن الكلمات الملكية لم تكشف فقط ازدواجية الخطاب، بل أطلقت عملية إعادة تموضع اضطرارية.السياسة، كما يعلم ممارسوها، ليست فقط في الأفعال، بل في ردود الفعل. والمتهم الحقيقي ليس من يُشار إليه بالإصبع، بل من يرتبك عند سماع إشارة عابرة. فما الذي جعل الإخوان يسارعون إلى نفي التهمة قبل أن تُطرح؟ هل كان الإنكار نوعًا من إقرار ضمني؟لطالما ظلّت السياسة الأردنية قائمة على ميزان حساس بين الوطني والإقليمي، بين الداخل والخارج. وفي هذا السياق، ظلّت بعض القوى تراوح بين خطابين؛ خطاب محلي يغازل الشارع، وآخر إقليمي يضمن التمويل والتأثير. لكن حين يأتي الاختبار الحقيقي، لا يعود ممكنًا السير على الحبل الرفيع من دون السقوط.لم يكن الارتباك السياسي الذي أظهرته بعض القوى الأردنية منعزلًا عن سياقه الإقليمي والدولي. فبعد سنوات من تمدد الحركات الإسلامية في المنطقة، جاءت التحولات السياسية الأخيرة لتعيد رسم الخريطة. دول كانت يومًا حاضنة لهذه الجماعات، إما خفضت دعمها وإمّا أعادت تعريف أولوياتها، سواء تحت ضغط الداخل أو نتيجة تغيّر معادلات القوى.وحتى القوى الدولية التي كانت ترى في الإسلام السياسي لاعبًا ضروريًّا، باتت أكثر حذرًا، خصوصًا بعد التحولات في مواقف واشنطن وأوروبا تجاه هذه الجماعات. هذا الانحسار الإقليمي والدولي لم يترك مجالًا كبيرًا للمناورة، ما دفع بعض الأطراف إلى إعادة تموضع سريع، ليس بالضرورة عن قناعة، بل تحت وطأة الضرورة السياسية.السؤال الأهم ليس في تبدّل مواقف جماعة سياسية بعينها، بل في دلالات هذا التبدّل. هل هو قناعة داخلية بأن الزمن تغيّر، أم أنّه مجرد انعكاس لمرحلة اضطراب سياسي إقليمي؟ ففي النهاية، لا أحد يغيّر عقيدته السياسية في يوم وليلة، لكن الجميع يتقنون فن تغيير الخطاب عند الحاجة.في السياسة، لا أحد يطالبك بالولاء، لكن الجميع يراقب مواقفك عند الأزمات. حين تغيّر خطابك عند كل منعطف، يصبح السؤال ليس عن مصداقيتك فحسب، بل عن منطق اللعبة التي تلعبها. واللعبة اليوم لم تعد تحتمل تعدد الولاءات، لأن من يبدّل ولاءه عند الحاجة، قد يجد نفسه في النهاية بلا ولاء على الإطلاق.