جلسات الحوار والمشروع وطني

Wait 5 sec.

في مسارٍ متسارع، انطلقت جلسات الحوار في المدن السورية، وقد شهدت هذه الانطلاقة ردات فعلٍ كثيرة من جمهورٍ واسع، وكانت غالبيتها مرحّبة بجلسات الحوار ومتناقضة في تقييم الجلسات شكلًا ومضمونًا. وتكررت الملاحظة الأكثر تداولًا منذ سقوط النظام وهي (أحقّية التمثيل)، وقد تمادى المطالبون بحصرية التمثيل بالقوى أو الأفراد الذين أسقطوا النظام عسكريًّا، أي من اصطلح على تسميتهم بأصحاب الشرعية الثورية. ويبرز هنا سؤال رئيسي، ماذا فعل بقية السوريين إذن؟ وهذا السؤال العفوي يحيلنا إلى التنبّه من مطبّات ثورية جديدة، أولها تعميم مظلومية جديدة، وثانيها محاولة لاستبعاد كل من لا يدور في فلك أصحاب الشرعية الثورية.طاولت الانتقادات أيضًا أسماء اللجنة التحضيرية لجلسات الحوار الوطني. بسرعةٍ قياسية يتم استحضار الملفات التعريفية بجميع أعضاء اللجنة، وتفاصيل متداولة لم تعد خفية على أحد، لكن يبدو أن التعيينات غير قابلة للنقاش وغير قابلة للتعديل، فيما اتخذ السوريون قرارًا صارمًا ولا رجعة عنه، لقد أجبروا الصمت على تغيير عنوانه، وأجبروه على نسيان عناوين بيوتهم، وأداروا زمام الإفصاح من كل الزوايا المعتمة والمعلنة. لقد أعلن السوريون والسوريات أنه لا صمت بعد اليوم.إن حجم المشاركات المجتمعية والأجسام المشكّلة حديثًا والمتنوعة ما بين السياسي والمحلي والاجتماعي والتعليمي والثقافي والتشاوري على مساحة مترامية وواسعة من الجغرافيا السورية، قد رسمت فضاءً مشرقًا من حيوية يراهن عليها السوريون بشدة، يسعون لامتلاك زمامها وإدارتها بتنوع مشرق وبإصرار مميز رغم كل محاولات توحيد الخطاب العام أو صهره ببوتقة موحدة تتماهى مع سياسة العهد الجديد الذي أعتقد أنه متفاجئ تمامًا بحجم المتغيرات الواقعية الحاصلة على الأرض بعد الثورة السورية وخلال سنواتها الطويلة.في محاولاتهم المحقة لاستعادة الساحات، يتدرب السوريون والسوريات على إدارة الخطاب العام، إلى سحب ملف الحوار الذي يتم تعريفه كقاعدة أساسية لعهدٍ إيجابي ولعلاقة تشاركية مع الحكم، سحبه إلى مساحاتهم التبادلية للبناء عليها.مهما اختلف السوريون عمّن يستحق الدعوات إلى جلسات الحوار الوطني ومن لا يستحقها، ومهما اختلفوا حول من يمنح الشرعية ومن يفرضها ومن يمتلكها، لكنهم فعليًّا يديرون حواراتهم الخاصة والعامة بجدية غير مسبوقة، باهتمام يليق بهم وبثورتهم وبما سددوه على طريق الحرية.تسبب اكتفاء اللجنة التحضيرية بالاستماع إلى مداخلات المشاركين صدمة لدى البعض، لأن الناس متعطشة فعليًّا للإجابات، وخاصة للطمأنة أو للمكاشفة العلنية بين الجمهور والعهد الجديد، والإجابات هنا لن تكون دعوة للاكتفاء بها ولا للصمت، بل لتركيز النقاش وإعادة ربطه بكل ما يطلبه وما يأمله السوريون والسوريات.جلسة الحوار في دمشق استمرت لما يقارب الساعات الأربع، مع أن الكثير من المشاركين اكتفوا بتقديم أوراق عمل لضيق وقت الجلسة، ولقناعتهم بأن دقيقة أو دقيقتين ستكون عاجزة عن إيصال ما يرونه ضروريًّا للطرح. ومع أن اللجنة قد أعلنت مسبقًا أن الجلسات هي للاستماع فقط، فقد حاول المشاركون والمشاركات استنباط الإجابات عن أسئلتهم أو مداخلاتهم التي اعتبروها مهمة وملحة في آنٍ معًا من بعضهم. نعم هنا جوهر أهمية الحوار الذي لم يعشه السوريون من قبل! أن تجمعهم في قاعة تتسع للقليل منهم، وتقول لهم تحاوروا. وللأمانة، فإن الأخبار الواصلة من قاعة الحوار تشي برغبة عارمة بكسر حدية التجاذبات وبرغبة شبه عامة بإبداء مرونة وإيجابية يتمنى السوريون أن تكون عنوانًا للمرحلة القادمة أو سلوكًا مرحبًا به ومعترفًا به في سوريا الجديدة.تبادل السوريون حواراتهم في الاستراحة رغم الاختلاف بالأفكار، وأكملوا حوارهم بعد الخروج من القاعة في الساعة العاشرة ليلًا. إنها حيوية لن يتخلى عنها السوريون أبدًا، إنّ انطلاق الحوار السوري - السوري قد بدأ خارج القاعات ودون انتظار الإذن من أحد.الحوارات الوطنية لا تحتاج لقاعات ولا لدعوات ولا لزمان ومكان محددين. إنها صورة السوريين والسوريات في سعيهم المحق والمستمر في استعادة وطنهم الذي استعادوه في لحظة ظنوا أنها غير حاصلة أبدًا.