عن إلغاء شعيرة الأضحية في المغرب

Wait 5 sec.

في ليلة يوم 26 فبراير/شباط 2025، قرار الملك محمد السادس بإلغاء شعيرة ذبح أضحية العيد لهذه السنة يمثل خطوة جريئة، تعكس مستوى عالياً من المسؤولية والحرص على المصلحة العامة في ظل ظروف استثنائية يمر بها البلد. هذه المبادرة التي جاءت في رسالة تلاها وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد التوفيق تحمل في طياتها رسائل عميقة على الصعيدين الديني والاجتماعي، وتستحق الوقوف عندها بالتفصيل لتحليل دلالاتها وآثارها.قرار مبني على حكمة شرعيةإلغاء شعيرة ذبح الأضحية ليس مجرد إجراء إداري عابر، بل هو قرار ينبع من فهم عميق لمقاصد الشريعة الإسلامية التي تقوم على التيسير ورفع الحرج عن الناس. ففي الظروف العادية، تعتبر شعيرة ذبح الأضحية سنة مؤكدة لمن استطاع إليها سبيلاً، ولكن حينما تواجه الأمة تحديات كبرى، مثل التراجع الحاد في أعداد الماشية نتيجة التغيرات المناخية، أو تداعيات اقتصادية ترهق الفئات الهشة، يصبح من الضروري أن تقدم القيادة رؤية تستند إلى الحكمة الشرعية التي تراعي مقاصد الدين.في رسالته، استند الملك إلى قوله تعالى: "وما جعل عليكم في الدين من حرج"، مؤكداً أن إقامة الشعائر الدينية يجب أن تتماشى مع الظروف الواقعية للأمة، وهذا الفهم المتوازن يعكس حرصاً على روح الدين الإسلامي، الذي يركز على المصلحة العامة والرحمة بالناس، بدلاً من التمسك الشكلي بالشعائر على حساب التبعات السلبية التي قد تنجم عنها.البعد الاجتماعي والاقتصادي للقرارجاء القرار في وقت يعاني فيه المغرب من تحديات مزدوجة: أزمات مناخية تتمثل في الجفاف وتراجع الموارد المائية، وأوضاع اقتصادية صعبة أثرت بشكل كبير على القدرة الشرائية للمواطنين. وفي هذا السياق، يشكل قرار إلغاء شعيرة الأضحية رسالة تضامن واضحة من القيادة مع الشعب، خاصة الفئات الأكثر هشاشة.من المعروف أن عيد الأضحى يشكل عبئاً اقتصادياً على العديد من الأسر المغربية، حيث يلجأ البعض إلى الاستدانة أو التضحية باحتياجات أساسية لتأمين ثمن الأضحية. وفي ظل هذه الأوضاع، جاء القرار ليخفف من هذا العبء، وليراعي التوازن بين إحياء شعائر الدين وبين الظروف الاجتماعية والاقتصادية، كما أن التراجع الكبير في أعداد الماشية بسبب الجفاف كان سيؤدي حتماً إلى ارتفاع جنوني في الأسعار، ما يجعل الأضحية عبئاً شبه مستحيل على معظم الأسر.رمزية الأضحية الملكيةأحد أبرز جوانب هذا القرار هو إعلان الملك محمد السادس أنه سيقوم بذبح الأضحية نيابة عن الشعب المغربي، هذه الخطوة تحمل دلالات رمزية عميقة، حيث تجسد روح المسؤولية التي يضطلع بها الملك باعتباره "أميراً للمؤمنين، وحامي الملة والدين"، وفق منطوق الدستور المغربي، كما أنها تحاكي سنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، الذي كان يذبح أضحية عن نفسه وأخرى عن أمته، في رسالة واضحة بأن جوهر العبادة يكمن في التقرب إلى الله وليس في المظاهر.هذه الخطوة تكرّس مفهوم القيادة القريبة من الشعب، حيث يعكس هذا القرار اهتماماً عميقاً بمعاناة المواطنين، ويعيد صياغة مفهوم التضامن الوطني، حيث يصبح الملك ليس فقط زعيماً سياسياً، بل رمزاً للوحدة والرحمة.إعادة النظر في مفهوم العبادةهذا القرار يدعو أيضاً إلى تأمل أعمق في مفهوم العبادة والشعائر الدينية، فالاحتفال بعيد الأضحى لا يتوقف عند ذبح الأضحية، بل يحمل معاني روحية واجتماعية أعمق، مثل تعزيز صلة الرحم، وإحياء قيم التضامن والتكافل، وشكر الله على نعمه... وقد أكد الملك في رسالته أهمية الحفاظ على هذه القيم، داعياً الشعب المغربي إلى "إحياء عيد الأضحى بالطقوس المعتادة مثل صلاة العيد وصلة الرحم والإنفاق على المحتاجين".هذا التوجه يعيد الاعتبار لجوانب العيد الروحية والاجتماعية بعيداً عن المظاهر التي قد تفقد المناسبة معناها الحقيقي، كما يفتح الباب أمام نقاش أوسع حول أهمية إعادة صياغة العادات والتقاليد بما يتماشى مع الواقع المعاصر.دلالات القرار في السياق الوطني والدوليعلى الصعيد الوطني، يعكس القرار الملكي قدرة القيادة المغربية على اتخاذ قرارات غير شعبوية عندما تقتضي المصلحة العامة ذلك. ففي زمن يتسم بارتفاع الأصوات الشعبوية وتجنب القادة اتخاذ خطوات قد تثير جدلاً، يبرز هذا القرار إشارةً إلى شجاعة سياسية. أما على الصعيد الدولي، فإن هذه الخطوة تقدم نموذجاً في التعامل مع التحديات المناخية والاقتصادية، حيث تجمع بين الحكمة الدينية والرؤية الاستراتيجية في عالم يواجه تغيرات مناخية متسارعة، حيث يمثل هذا القرار دعوة إلى التفكير في كيفية التكيف مع هذه التحديات بطريقة تحفظ التوازن بين التقاليد والضرورات.قرار للدرس والتأملقرار الملك محمد السادس إلغاء شعيرة ذبح أضحية العيد لهذه السنة يحمل في طياته دلالات متعددة، من الحكمة الشرعية إلى المسؤولية الاجتماعية والاقتصادية. إنه ليس فقط خطوة عملية لمعالجة أزمة آنية، بل هو دعوة إلى التفكير في معاني الدين وقيم التضامن، ودرس في كيفية اتخاذ قرارات شجاعة تحقق المصلحة العامة. في زمن الأزمات، تظهر القيادة الحقيقية في قدرتها على اتخاذ قرارات غير مألوفة لكنها ضرورية، وقرار الملك هو نموذج لهذه القيادة التي تضع الشعب ومصلحته فوق كل اعتبار.