في ظل التحولات الكبيرة التي تشهدها الساحة السورية، برز صعود هيئة تحرير الشام إلى سدة الحكم كواحدة من أكثر القضايا إثارة للجدل، خاصة بعد تعيين زعيمها أحمد الشرع رئيسًا للبلاد. هذه التطورات تطرح العديد من التساؤلات حول مستقبل سوريا، طبيعة النظام السياسي الجديد، وموقف القوى الإقليمية والدولية من هذا التحول. كما أن صعود جماعة ذات خلفية جهادية إلى السلطة يثير تساؤلات حول تأثيره على الحركات الإسلامية الأخرى في المنطقة، ومستقبل التنظيمات المتطرفة مثل القاعدة وداعش.إضافة إلى ذلك، يبرز التساؤل حول طبيعة العلاقة بين سوريا الجديدة وإسرائيل، خاصة في ظل استمرار الاحتلال الإسرائيلي لأراضٍ سورية ورفضه الالتزام باتفاقية فض الاشتباك لعام 1974. فهل تتبنى هيئة تحرير الشام نهجًا براغماتيًا في التعامل مع إسرائيل، كما فعلت بعض الحركات الإسلامية الأخرى، أم أن المواجهة باتت حتمية وإن تأجلت لسنوات؟لمناقشة هذه القضايا، نحاور عبد الغني مزوز، الكاتب المغربي والباحث المتخصص في شؤون الجماعات الإسلامية، الذي يقدم رؤيته حول هذه التحولات وتداعياتها على المشهد السوري والإقليمي.كيف تفسر صعود هيئة تحرير الشام إلى الحكم في سوريا؟في الواقع تملك هيئة تحرير الشام قوة عسكرية كبيرة، لقد استطاعت في السنوات السابقة إخضاع كل الجماعات المنافسة بما فيها داعش، واهتمت بتطوير جناحها العسكري عبر إنشاء ألوية مدربة ومنضبطة وقوات خاصة عالية الكفاءة، وبناء ترسانة عسكرية كبيرة كالعربات المصفحة، والمدافع والصواريخ، والطائرات المسيرة. هذا من جانب من جانب آخر سعت إلى إقناع الجماعات الأخرى بتوحيد المجهود العسكري في غرفة عمليات واحدة وتحت قيادة واحدة، فكانت كل الجماعات الناشطة في شمال غرب سوريا تدين بالولاء السري أو العلني لها، إضافة إلى جماعات أخرى في المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش الوطني الموالي لتركيا. وعندما حانت لحظة المواجهة كان من الطبيعي أن تتصدر الهيئة المشهد باعتبارها القوة الكبرى وصاحبة القرار بفتح المعركة.كيف أثرت التغيرات الإقليمية والدولية على هذا التحول في سوريا؟لا شك أن الوضع الإقليمي والدولي ساهم بشكل أساسي في هندسة المشهد الجديد في سوريا، وقرار طلاق عملية عسكرية ضد قوات الأسد في 27 من نوفمبر تم بعد تقييم ذكي للمعطيات الإقليميات والدولية، فحزب الله اللبناني وهو من أكبر حلفاء نظام الأسد خسر معظم قادته المؤثرين، وآلاف من عناصره في الحرب ضد إسرائيل، كما سحبت إيران عناصرها من خطوط المواجهة في سوريا مع تحول الحرب مع إسرائيل إلى صراع مباشر، كما لم تعد خطوط الإمداد من إيران إلى سوريا عبر العراق نشطة كما هو الحال في السنوات السابقة. هذا المعطى يظاف إلى الوضع الذي تعيشه روسيا نتيجة الحرب في أوكرانيا وتوغل القوات الأوكرانية داخل المقاطعات الروسية، وهو ما أدى إلى تغيير في أولويات موسكو، تجلى في سحب عدد من القطع العسكرية من سوريا والرجوع بها إلى روسيا حيث خطوط الاشباك المشتعلة.كيف تغيرت هيئة تحرير الشام منذ تأسيسها حتى اليوم؟خضعت هيئة تحرير الشام لمجموعة من التغييرات والتحولات على مستوى الخطاب والأفكار وعلى مستوى البنية التنظيمية أيضا، فماهيم الولاء والبراء، وتحكيم الشريعة، والنصيرية، وقتال أهل الردة.. لم تعد رائجة في الخطاب الجديد للهيئة وحل محلها مفاهيم لم تكن مقبولة في السابق لدى الجهاديين مثل ” الوحدة الوطنية” و” العيش المشترك” و”سيادة القانون” و”الانفتاح على المجتمع الدولي” هذه التحولات فرضتها التجربة التي راكمتها الهيئة على مدار 14 سنة من الصراع، لاسيما مع تنظيم داعش الذي تريد قيادة الهيئة وضع خطوط فاصلة وواضحة بين تجربة داعش وتجربة الهيئة في الحكم وإدارة المجتمعات المحلية. كما ساهم الخلاف مع القاعدة ورغبة الجولاني في التقارب مع القوى السياسية والثورية الأخرى في الدفع بعيدا بهذه التحولات.أما على مستوى البنية التنظيمية فالهيئة قامت بتطوير هيكليتها، وأسست دائرة الشؤون السياسية لمخاطبة الغرب والدول الاقليمية وطمئنتها وتسويق صورة معتدلة عنها، كما طورت جهازها العسكرية وأنشأت ألوية عسكرية احترافية وقوات خاصة وكلية حربية، إضافة إلى مؤسسة أمنية قوية، والنقطة الأهم أنها أسست حكومة مدنية لإبعاد أمراء الحرب عن الشؤون العامة للناس.هل يمكن اعتبار هيئة تحرير الشام نسخة جديدة من القاعدة أم أنها تحولت إلى كيان سياسي مختلف؟في الواقع تمة خلافات عميقة بين القاعدة وهيئة تحرير الشام. القيادة العامة للقاعدة وعناصرها ليسوا راضين على سياسة أحمد الشرع منذ أواخر 2016. ودخل الطرفان في مواجهات عسكرية دامية، واعتقلت الهيئة قيادات بارزة في القاعدة، والآن مع دخول الهيئة إلى دمشق وتعيين أحمد الشرع رئيسا لسوريا تكرس الشقاق بين الطرفين، وعبر نشطاء القاعدة عن رفضهم لمعظم القرارات الصادرة عن الشرع.نعم الهيئة بخطابها السياسي، وعلاقاتها الخارجية والداخلية تحولت إلى نموذج جهادي جديد بعيد عن القاعدة لكن ليس بعيدا إلى الحد الذي نقول فيه بشكل حاسم إنه لا توجد أي نقاط مشتركة بين التنظيمين.كيف يبدو المشهد السياسي والاقتصادي في سوريا بعد تولي أحمد الشرع الحكم؟ من الواضح تماما أن أحمد الشرعى يحظى بقبول وثقة من شرائح عريضة من الشعب السوري والقوى السياسية المعارضة، لا يوجد حتى الآن أي اعتراض شعبي أو فصائلي على قراراته وتعييناته، لكن التحدي الكبير الذي ينتظره يتمحور في مسارين؛ مسار شكل النظام السياسي الجديد وما ينطوي عليه ذلك من تعقيدات لاسيما فيما يتعلق بالتوافق على الوثيقة الدستورية، وتداول السلطة، وطبيعة النظام السياسي المناسب لسوريا هل هو نظام رئاسي أو جمهوري، وحدود المشاركة السياسية للمكونات الأخرى، وهل كل هذه التطورات يمكن أن توافق عليها النواة الجهادية الصلبة المكونة لهيئة تحرير الشام.المسار الثاني هو تحدي إقناع المجتمع الدولي برفع العقوبات ودعم مشاريع إعادة الاعمار والمساهمة في إنعاش الاقتصاد السوري المدمر، وجلب الاستثمارات وتحقيق الإقلاع الاقتصادي المأمول. الاقتصاد السوري منهار تماما، إذ لا يمكن الحديث عن استقرار سياسي وسلم أهلي دون انتعاش اقتصادي، وهو ما حاول أحمد الشرع القيام به في جولته الخارجية الأولى إلى السعودية.كيف تفسر الإقبال المتواصل للوفود الدولية على دمشق رغم تخوفهم من الخلفية الجهادية التي ينحدر منها الشرع؟الزيارات الخارجية دافعها الأساسي استطلاع الأوضاع وتقييم الحكام الجدد والاستماع مباشرة إلى القوى المنتصرة، الدول المتأثرة بشكل مباشر أو غير مباشر بالاوضاع السورية تحتاج إلى اتخاذ موقف إزاء التحولات الجديدة وتريد لمواقفها أن تكون مبنية على معطيات واقعية وليس على البيانات والتقارير.صحيح أن الحكام الجدد ذوو خلفية جهادية لكنهم أفضل المتاح حتى الآن، هم أفضل من داعش والقاعدة والجهاديين الأجانب، إضافة إلى ذلك فهم يمثلون سلطة أمر واقع لا يمكن تجاهلها.هل يمكن أن يشكل صعود هيئة تحرير الشام دافعًا لنشاط جماعات جهادية أخرى في المنطقة؟بكل تأكيد نجاح جماعة جهادية في الوصول إلى السلطة سيكون حافزا للجماعات الأخرى لتكثيف نشاطها، وقد يحفزها ذلك أيضا على تعديل خطابها السياسي وأفكارها الجهادية، لكن لن يكون ذلك منتظرا من جماعات راديكالية مثل داعش.كيف يؤثر هذا التحول على مستقبل داعش والقاعدة والجماعات المتطرفة في سوريا وخارجها؟قبل أيام أعلنت تنظيم القاعدة في سوريا حل نفسه، لكن في الواقع يبدو سابقا لأوانه الحديث عن مواقف الجهاديين في سوريا، عندما يستقر النظام السياسي سيظهر إن كانوا راضيين عن ذلك أم لا.نموذج الهيئة سيحدث تغييرا جذريا في الأيديولوجية الجهادية، فإذا كانت أفكار المقدسي وأبو قتادة الفلسطيني والزرقاوي وبن لادن قد صاغتا جزءا من السردية الجهادية في العقود الماضية، فأعتقد أن فاعلين جهاديين جدد سيكون لهم تأثير على الخطاب الجهادي في المستقبل مثل عبد الرحمن عطون ومظهر ألويس وابو مارية القحطاني وهؤلاء هم من صاغوا المواقف الشرعية للهيئة في السنوات الماضية.هل من الممكن أن تتحول هيئة تحرير الشام إلى نموذج جديد للحكم الإسلامي في المنطقة؟بكل تأكيد أعتقد أن تأثيرها إذا نجحت في إرساء نظام سياسي مستقر سيكون أكبر من تأثير جماعة الإخوان المسلمين، ونموذجها سيكون ملهما لأجيال قادمة من الإسلاميينهل يمكن أن نشهد انشقاقات داخل الهيئة وتشكل جماعات جهادية أخرى بسبب الخطاب المتوازن والمعتدل الذي تتبناه إدارة العمليات السياسية بعد دخول دمشق؟لن يكون ذلك مستبعدا خصوصا إذت لم يتم التنصيص على حاكمية الشريعة في الدستور الجديد، أو لم تقدم الادارة الجديدة تطمينات كافية بأن الوجوه المحسوبة على التيار العلماني لن يكون لها دور سياسي مؤثر في المرحلة القادمة.كيف تفسر تغير خطاب الهيئة والشرع تجاه فلسطين مقارنة بمواقفها السابقة ؟أولويات الشرع الآن هي توحيد الفصائل واستتباب الأمن، والقضاء على فلول النظام السابق، وإقناع الغرب برفع العقوبات ودعم مشاريع إعادة الإعمار وهو ما لن يتم إذا تبنى مواقف معادية لإسرائيل في المرحلة الراهنة خصوصا في ظل إدارة الرئيس ترامب. الشرع نفسه أكد في كثير من المناسبات أن منطق الدولة يختلف عن منطق الجماعة. فإذا كانت الجماعة بحاجة إلى الحشد والتحريض والتعبئة وتخويف الآخرين فالدولة بحاجة إلى الهدوء والاستقرار وطمأنة الإخرين.في ظل تمسك حماس بمحور إيران الذي تعاديه القيادة السورية الجديدة هل ممكن أن نشهد تعاونا وتنسيقا بين سوريا الثورة والمقاومة الفلسطينية؟بالطبع سيكون هناك تعاون وتنسيق لكن ليس في هذه المرحلة، آخر ما تتمناه الادارة الجديدة هو الدخول في مواجهة أمنية أو استخبارية أو عسكرية مع إسرائيل، أو الدخول في لعبة شد الحبل مع اللوبي الاسرائيلي في الغرب.هل تعتزم القيادة الجديدة في سوريا اتخاذ أي خطوات عملية لدعم القضية الفلسطينية، أم أن أولوياتها تركز على الوضع الداخلي السوري؟في المرحلة الراهنة لن يكون هناك أي دعم للقضية الفلسطينية باستثناء الدعم الرمزي والمعنوي. مثل رفع الأعلام الفلسطينية، وإعادة الأملاك المصادرة إلى بعض القوى الفلسطينية، والسماح ببعض المظاهرات والفعاليات الشعبية المؤيدة لفلسطية.هل هناك إمكانية لأن تتبنى الهيئة نهجًا براغماتيًا في تعاملها مع الاحتلال الإسرائيلي كما فعلت بعض الحركات الإسلامية الأخرى أم أن المواجهة حتمية خاصة بعد إصرار إسرائيل على عدم الانسحاب من الأراضي السورية التي سيطرت عليها مؤخرا وعدم احترامها لاتفاقية فض الاشتباك الموقعة سنة 1974 ؟المواجهة بين إسرائيل وسوريا الجديدة قادمة لا شك في ذلك، لكنها ليست ضمن أولوياتها الآن، يمكن أن تتأجل المواجهة لسنوات طويلة لكنها في يوم ما ستقع.من يتأمل سيرة أحمد الشرع سيرى أنه دائما يتجنب ويؤجل المعارك التي يشك في أنه قادر على كسبها حتى وإن كانت مع جماعة مسلحة صغيرة. لكن عندما يعلم أن الظروف والموازين العسكرية والاستراتيجية إلى فإنه يندفع إلى المعركة بكل عنفوان وثقة. حوار: محمد بن عبد الله