"أحلام كهربائية"... أن تكون التكنولوجيا فنّاً

Wait 5 sec.

ماذا لو عدنا بالزمن إلى الوراء، إلى وقت كانت فيه الشاشات تُضاء لأول مرة، والآلات تهمس بإمكانياتها الفنية، قبل أن تُختزل في هواتفنا الذكية؟ معرض "أحلام كهربائية: الفن والتكنولوجيا قبل الإنترنت" في تيت مودرن (لندن) يُعيدنا إلى حقبة الخمسينيات حتى مطلع التسعينيات، إذ كان الفنانون روّاداً في استكشاف التقنيات الناشئة، محوّلين الدوائر الإلكترونية إلى أدوات للإبداع، والبرمجيات البدائية إلى تشكيلات بصرية.في زمن كانت فيه التكنولوجيا تُصنع للصراعات العسكرية وسباق التسلح، قرر فنانو "أحلام كهربائية" أن يقتنصوا هذه الأدوات من قبضة الجيوش والشركات، ليجعلوا منها منصاتٍ للتأمل والإبداع. المعرض المستمر حتى الأول من يونيو/حزيران المقبل، ويضم أكثر من 150 عملاً لفنانين من بلدان وثقافات مختلفة، يكشف كيف حوّل هؤلاء الرواد المحركات البسيطة والشاشات التلفزيونية القديمة، وحتى أجهزة الكمبيوتر الأولى، إلى أعمال فنية تُحاكي أحلامهم.في هذا المعرض، يجد الزائر نفسه في عالم ينبض بالحركة والأضواء، إذ تملأ الآلات والمرايا المتحركة مساحات العرض، في تذكير بالماضي الطموح الذي رأى في التكنولوجيا فرصة للإبداع، وليس مجرد تهديد للخصوصية أو أداة للهيمنة. الأعمال المعروضة تتنوع بين التجارب الضوئية، والرسوم الرقمية البدائية والتركيبات التفاعلية التي تأخذ الزائر في رحلة بين الماضي والمستقبل. فقبل أن يصبح الواقع الافتراضي صناعة بمليارات الدولارات، كان الفنانون يلصقون المرايا على المحركات لخلق ألعاب ضوئية، أو يستخدمون أجهزة التلفاز القديمة لتخليق مشاهد تجريدية أو خيالية.لا يمكن تجاهل الجانب التفاعلي الذي يجعل الزائر شريكاً في العمل الفني، وهي إحدى الصيغ الفنية التي راجت خلال الثمانينيات والتسعينيات. يتجسد هذا التفاعل في العمل المعروض تحت عنوان "انعكاسات نرسيس الرقمية"، وهو مكون من شاشة صغيرة تعرض ما يشبه تموجات الماء. حين يلمس الزائر هذه الشاشة، سيشاهد صورته تُعرض في نسخة مكبرة على الحائط من خلفه. العمل الذي صممه الثنائي الألماني فليشمان وشتاوس عام 1992، يبدو نبوءة مبكرة بثقافة السيلفي ووسائل التواصل الاجتماعي، وكأنه يسأل: هل سنسقط في حب انعكاساتنا الرقمية مثل أسطورة نرسيس؟ أما الفنان الفنزويلي كارلوس كروز، أحد أبرز الأسماء في المعرض، فيقدم عمله الشهير "بيئة التداخل اللوني"، حيث تتراقص الألوان المتداخلة على الجدران لخلق تجربة حسية غامرة. بينما يستخدم فنان آخر الحقول المغناطيسية لتخليق أشكال لا نهاية لها، وهناك من وظفوا المصابيح الكهربائية لإنتاج أنماط ضوئية مختلفة ومتكررة.ليس كل شيء في المعرض ينبض بالحياة والألوان، فبعض الأعمال تأخذ منحى سوداوياً يعكس مخاوف العصر الرقمي. لوحة "هل يمكنك التعرف إلى الجنة الافتراضية؟" للفنانة البريطانية سوزان تريستر، تحمل مزيجاً من الجمال والتشاؤم، حيث تظهر مناظر بائسة ورسومات رقمية ضبابية، تُذكّر بمستقبل قد يكون أقل إشراقاً مما توقعه رواد هذا المجال. ومن بين الأعمال الأكثر تأثيراً، تأتي لوحة الفنانة الفلسطينية سامية حلبي، التي أنتجتها في الثمانينيات. العمل يبدو للوهلة الأولى تجريداً هندسياً، لكنه يكشف تدريجياً عن أشكال تُشبه الخرائط. يأتي العمل مصحوباً بصوت إلكتروني يشبه أزيز الصواريخ، في محاكاة مُخيفة للواقع المرير الذي يعيشه أبناء وطنها.يأخذ بعض النقاد على المعرض تركيزه على "البهجة التقنية" من دون التعمق في السياقات السياسية التي ولدت فيها. فالحرب الباردة وتلوث البيئة وقمع الحكومات للفنون كلها ظلالٌ تطفو خلف الأعمال دون أن تُفكك بشكل وافٍ. ولكن يبدو المعرض في جانب منه كأنه مرآة لعصرنا الحالي، فبينما نلهو بتقنيات الذكاء الاصطناعي والواقع الافتراضي، نكتشف أن فنانين، مثل الأميركية ريبيكا ألين في الثمانينيات، كانوا يبتكرون تقنيات التقاط الحركة ثلاثية الأبعاد، أو الفنان البرازيلي إدواردو كاك الذي كتب قصائد نصية ملونة عبر أجهزة "مينيتيل" الفرنسية، فبدا كأنه يتنبأ بثورة الإنترنت.معظم الأعمال هنا تذكّرنا بأن التكنولوجيا يمكن أن تكون فناً، وليس العكس. فالروبوتات التي تصدر الموسيقى وأنشأها فنانون في بداية الثمانينيات، تبدو كأنها استعارة مُباشرة لعلاقتنا المعقدة اليوم مع الآلات والأجهزة، التي نغذيها بالبيانات، وهي تُغذينا بالأوهام. ويبقى السؤال معلقاً: هل نجحت التكنولوجيا في تحقيق الحلم الذي راود هؤلاء الفنانين؟ أم أنها تحولت إلى وحش يلتهم الإبداع الحر؟المعرض بلا شك يُعد تجربة فريدة تعيد الزائر إلى زمن كانت فيه الآلات أدوات استكشاف، وليست مجرد واجهات زجاجية تعمل باللمس. وربما يكون الدرس الأهم الذي يقدمه المعرض هو أننا اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بحاجة إلى إعادة التفكير في علاقتنا بالتكنولوجيا، وهل نحن مستخدمون لها، أم أنها هي التي تستخدمنا؟