مصطحباً كمانه، تنقل الموسيقي التونسي، جاسر حاج يوسف عازفاً ومؤلفاً للموسيقى وقائداً للأوركسترا بين مسارح ودور الأوبرا الغربية. هذا النجاح حرّضه على التقدم إلى عتبة جديدة، تطلبت شيئاً من العزلة حتى يبحث عن صوت خاص يطبع موسيقاه، التي تضم طيفاً واسعاً من الألوان الأنماط، منها الشرقي الطربي، والجاز، ليستعمل في مزجهما آلة تسمى كمان الحب، استدعاها من عصر الباروك. وللتعرف إلى تجربة حاج يوسف، أجرت معه "العربي الجديد" هذه المقابلة.أول مقطوعة ألّفتَها كانت من قالب السماعي الشرقي. هل تعتقد أن على الموسيقي العربي أن ينطلق من القوالب الكلاسيكية؟أعتقد أن الموسيقى لا تعرف الانتماءات، لكن بالنسبة إلى المقطوعة لم يكن لدي خيار حين ألّفتها، لأن العمل كان بطلب أستاذتي أثناء فترة الدراسة، على غير رغبة مني، وحتى المقام حدّدوه لي (النكريز). رغم هذا، أعده اليوم أمراً جيداً؛ لأن الفنان مطالب أن يتعرف إلى تراثه ويتقنه قبل أن ينتقل إلى مساحات أخرى، فكما يكون العازف أو الموسيقى الغربي متمكناً من تراثه: باخ وبيتهوفن وموتزارت... على الموسيقي العربي أيضاً أن يلم بتراثه، وهذا ما أهلني إلى أن أقدّم هذا القالب العربي التقليدي عازفاً وقائدَ أوركسترا في مختلف أنحاء العالم. وباتت الأوركسترا الغربية في باريس وبلجيكا وروسيا، تعزف السماعي من خلال هذه المقطوعة.في ألبومك الأول، "سيرة"، هناك مقطوعة بعنوان "اسقني"، مزجت فيها بين مقام الراست والسلم الخماسي. حدّثنا عنها."اسقني"، في الأصل، قصيدة لأبي نواس مطلعها: "اسقني والليل داج قبل أصوات الدجاج". وحينما لحّنت هذه المقطوعة في عام 2008، كنت أتطلع إلى أن تقدمها المغنية الموريتانية ديني منت آبا، لكن للأسف رحلت وقتها. أما عن سبب اختياري لديني؛ فلأن الموريتانيين يغنون بالعربية الفصحى، إلى جانب أن الآكسنت الموسيقية لديهم تجمع بين الخصوصية الشرقية والسلم الخماسي الأفريقي في الوقت نفسه. لذلك، تجد لديهم مقامات بين الراست والخماسي، وهذا ما أوحى لي بتلحين قصيدة أبي نواس، لكن تعذر إلحاق القصيدة بالمقطوعة في ألبوم "سيرة"، لأقدمها أخيراً مع باليه أوبرا جنيف عبر مغني العرض.تعرفنا من خلال "سيرة" أيضاً على آلة مندثرة من عصر الباروك Viola d'amore (كمان الحب). ما الذي تمنحه هذه الآلة لك ولا تجده في الكمان؟الكمان هو آلتي منذ الولادة، إذ كان هدية الولادة من صديق مقرب لوالدي، وهذا حرضني على تعلم تلك الآلة مبكراً. لكن في مرحلة ما، أحببت أن أنتقل إلى مساحات صوتية أعمق مما يمنحه الكمان، إلى أصوات مثل التي تصدرها آلة التشيلّو على سبيل المثال.جوابات الكمان عالية، لكن القرارت قليلة نسبياً، لذا فكرت بداية في زيادة وتر خامس للآلة، إلا أنه كان من الصعوبة بمكان أن أجد صانع آلات يستطيع القيام بذلك. وهداني بحثي آخر الأمر إلى آلة تشبه الكمان بها ستة أو سبعة أوتار. ومع الأوتار التي يُعزف عليها، هناك أوتار إضافية تهب صدى لصوت الكمان، وبالصدفة وجدت تلك الآلة وهي كمان الحب لدى مخرجة مسرحية كنت أعمل معها لتهديني إياها.تعلمت على الآلة الباروكية بنفسي. وطلبت من إحدى ورش صناعة الآلات العالمية، إضافة أوتار أخرى ليست موجودة فيها، حتى يُتاح لي العزف على جميع الطبقات الموسيقية، مع أن هذا زاد من صعوبة العزف بطبيعة الحال. وبمرور الوقت، صرت أعزف عليها أكثر من الكمان، لأنها تمنحني مساحة أكبر في الجوابات والقرارات، وحتى في الأنواع الموسيقية. أستطيع أن أعزف بها العربي والشرقي بصفة عامة، وكذلك الكلاسيكي والجاز. جميع الألوان الموسيقية يمكن عزفها بهذه الآلة.يُنظر إلى موسيقيي الجاز بوصفهم الصفوة في هذا المجال، نظراً إلى تعقيد اللون الموسيقي. كيف ترى الجاز الذي له حضور قوي لديك؟ربما يكون هذا صحيحاً في تونس أو مصر أو لبنان... لكن في أميركا مثلاً، الجاز ليس موسيقى للنخبة، ففقراء نيو أورليانز يعزفون الجاز، وما يعجبني في الجاز ليس تعقيده، إنما ما يدعو إليه، فهذه الموسيقى وجدت لتكون ضد السائد، هي موسيقى ثورية، استعملها السود المضطهدون للتعبير عن الرفض. وفي كل مرة حاول فيها البيض تفسيرها بإطار محدد، يغيّر السود طبيعتها. وهذا ما جذبني إليها، إنها ضد السائد، وضد كل ما هو سهل. لكن للأسف احتواها السوق التجاري، فكما هي موسيقى نخبوية هي أيضاً تجارية، خاصة أنها تحوي بداخلها تقسيمات أو أنواعاً عدة.إلى جانب ثوريتها يعجبني، أيضاً، استلهام أساليبها وثرائها من الموسيقى الأفريقية. أنجزت أبحاثاً حول تقارب الجاز والموسيقى الشعبية العربية، فهناك جوانب مشتركة حتى في المقامات، فالمسلمون والعرب حين وصلوا إلى الجانب الغربي من أفريقيا، تأثر السكان هناك بالموسيقى العربية. وحين حط السود في أميركا، حملوا معهم الموسيقى الأفريقية، وكذلك شيئاً من الموسيقى العربية. لكن هذا لا يقال، لأن تاريخ الجاز كتبه الأوروبيون. الخلاصة أن هذا ما جذبني إلى موسيقى الجاز، اشتراكها مع الموسيقى الشعبية والعربية والشمال أفريقية وموسيقى المقام الموجودة لدي الهند وإيران. لهذا كله ملت إلى الجاز.واضح أنك مهتم بالجانب البحثي والتوثيقي في عملك. ما الذي يدفعك إلى ذلك؟لست مقلداً، أنا ضد التقليد. حينما أعزف أو ألحن، أو حتى عندما يُقدَّم لي مقترحٌ للعمل، إذا لم يكن يحتوي ما هو خاص، لا أشارك به. الجانب البحثي مهم حتى لا أقع في التقليد، أهتم دائماً بأن أضيف شيئاً ولو بسيطاً إلى ثقافتنا، فالموسيقى بالنسبة لي ثقافة وليست ترفيهاً. طبعاً هناك من ينظر إلى الموسيقى بوصفها ترفيهاً، لكني معني بها بوصفها ثقافة.سجّلت ألبومك الأخير، Réminiscence، أثناء استضافة فنية في قصر شامبور في فرنسا. لو تحدثنا عن فكرة ربما ليست شائعة في بلداننا العربية، وهي أهمية المكان وأثره على إنتاج الموسيقى.قصر شامبور هو رمز معماري لـ Réminiscence (عصر النهضة) التي تترجم أيضاً: الولادة من جديد. وحين تقيم في مكان كهذا، متخفّفاً من مشاغل الحياة، ولا تكون مطالباً سوى بالتركيز على أبحاثك وأحاسيسك وفنك، فهذا بعيد تماماً عن عملك داخل استوديو في قلب القاهرة مثلاً، أو باريس، بغرض التسجيل الذي لا بد أن تنتهي منه في آخر اليوم. ليس الشيء نفسه، وبالطبع ليست النتيجة ذاتها. تفكيرك وإحساسك وتساؤلاتك وإلهامك كلّها تختلف، فالمكان مهم للغاية في عملية الإبداع.من بين الأمور اللافتة للانتباه في حديثك عن هذا الألبوم، استضافتك أثناء إنتاجه لنماذج مثل طباخ وفلاح وقبطان مصادرَ للإلهام.الموسيقى ليست منفصلة عن حياتنا اليومية، ودائما ما أسأل نفسي لماذا الموسيقى؟ لتحملني الإجابة إلى التعاون ليس مع موسيقيين فحسب، إنما مع نماذج مثل كاتب وخطاط وقبطانة كانت تعمل على تسجيل أصوات الحيتان وهي تغني. أناس من هذه النوعية يلهمونك ويهبونك أفكاراً. هذا يأتي بالطبع بعد التمكن من النواحي التقنية والفنية. عندها يتساءل المرء: ماذا بعد؟ فإتقان المقامات وإجادة التنقل بينها يجب أن يتبعه سؤال: لماذا تُستخدم؟ وما هو الهدف من إنتاج العمل الموسيقى؟ ألبومي هذا يحمل تلك التساؤلات الأولية.في لقاء سابق ذكرت أن إقامتك الفنية في قصر شامبور كانت بغرض إيجاد صوتك الخاص. ما هو هذا الصوت الذي تتصور أنه يميز موسيقاك؟في عام 2016، وجدت نفسي في فيلهارموني باريس عازفاً وصوليست وقائداً للأوركسترا لـ120 موسيقياً، وفي الوقت نفسه ملحناً ومنتجاً، وهذا ربما يمثل طموحاً لكثيرين، وبالطبع تلقيت بعدها عروضاً مشابهة قدّمتها عدة دول أوروبية، لكني فضلت أن أصحب آلة كمان الحب وأعيش في عزلة لفترة بغرض البحث عن صوتي الداخلي؛ فبعد أن درست الموسيقى الشرقية ونظيرتها الكلاسيكية، وكذلك الموسيقى الهندية، كان من الضروري أن أتقدم إلى تلك الخطوة، فأنا لا أقبل أن أكون مقلداً. وفي رأيي أنه من الضروري أن يسعى كل عازف أو موسيقي إلى استكشاف صوته الداخلي الذي ينعكس على صوت موسيقاه، وذلك بالطبع بعد التمكن من التقنيات والأنماط الموسيقية المختلفة، ليذهب الموسيقي بعدها إلى تلك العتبة، أن تعثر على تقنيتك أنت ونمطك أنت وتدرك كيف توظفه في هذا العالم.ذكرت أن ترجمة اسم ألبوم Réminiscence هي الذكريات التي تتشكل عبر الأحاسيس وليس الذاكرة. كيف تؤثر هذه الفكرة على موسيقاك؟حين بدأت العمل على هذا الألبوم في خلوتي، كما أسلفت، انتبهت إلى أن استكشاف منطقة الأحاسيس، يمكن أن يستدعي قصصاً وذكريات لم يعشها المرء، في حين تتعرف إليها أحاسيسه لا ذاكرته. هذه الحكايات يعود زمنها ربما إلى قرون مضت، وكان أن اصطحبت معي بعض تسجيلات الأغاني الشعبية، وسوراً قرآنية مرتلة بصوت قارئ أحبه كثيراً، هو عبد الباسط عبد الصمد.هذه العزلة وتلك المواد الفنية القديمة أهلتني أن أستقبل حكايات تعود إلى قرون مضت وقصصاً لم أعشها، لكن أحاسيسي تعرفت إليها. وحين أنهيت تسجيل الألبوم، تواصلت معي مؤرخة روسية وباحثة فرنسية، أعلمتاني أنهما وجدتا تسجيلات في برلين تعود إلى سجناء في فترة الحرب العالمية الأولى. ومن بين آلاف التسجيلات، جذب اهتمامهما تسجيل بتاريخ مايو/أيار عام 1916 لشخص مجهول يغني، لا تعلمان غير اسمه الأول وبلدته، المونستير، مدينتي التي نشأت فيها. وطلبتا مني مساعدتهما كي تذهبا إلى هناك وتستكملا بحثهما حول هذا الشخص. حين استمعت إلى التسجيل، شعرت أن هذا المغني التونسي من عائلتي، وأخبرتهما بذلك، مع أنه من غير الوارد وقتها أن يكون كذلك، فلم يكن لي أدنى معرفة أن في عائلتي من اشترك في الحرب العالمية الأولى واعتقل في ألمانيا. المهم أني أرسلتهما إلى والدي لكي يساعدهما، لأنه مختص بالموسيقى الشعبية القديمة، وبالفعل تعرف والدي إلى الصوت، إذ كان يعود إلى جدّه.في هذه الأثناء كنت قد انتهيت من تسجيل الألبوم الذي احتوى على تسع مقطوعات، إلى جانب مقطوعة اسمها دولاب، لحنتها منذ 15 أو ربما 20 عاماً، وهي من قالب الدولاب المصري، ونصحني زملائي ألا ألحقها بالألبوم، لأنها بعيدة عن أجوائه. مع ذلك، ساقتني رغبتي إلى تسجيلها. وحين استمعت إلى أسطوانة الجد، ألفيت صوته جميلاً جداً، وصدفة، وربما ليس كذلك، كان يغني من المقام نفسه والطبقة ذاتها، فقررت أن ألحق صوته بالمقطوعة الموسيقية.هناك أيضاً مقطوعة اسمها فريجية، وهي أفريقية لكن باللهجة البدوية، لحنتها في عام 2005 من مقام اكتشفت أنه المقام ذاته والإيقاع نفسه الشائعان في شمال تركيا وجنوب جورجيا، ولم أكن أعلم ذلك إلا بعد أن تحدثت إلى والدي، الذي عرفني أن أصولنا تعود إلى هذه المنطقة. لذلك كله، أتصور أن أحاسيسنا يمكن أن تذهب بنا إلى مساحات لا ندركها على مستوى الوعي.ما هي مشاريع المقبلة؟أعمل حالياً على ثلاثة ألبومات، ولدي جولة تضم حفلات بعدد كبير من دور الأوبرا الأوروبية والأميركية، مع باليه أوبرا جنيف؛ فموسيقى العرض الذي يؤدونه من تلحيني، وفي الوقت نفسه أعمل على مشروع أوركسترالي يضم عازفين من العالم العربي والولايات المتحدة وأميركا اللاتينية، سنقدم من خلاله عدداً من المقطوعات الموسيقية من تأليفي، إلى جانب عدد من المقطوعات التي تنتمي إلى التراث العالمي، تشمل مؤلفات عربية.