بعضٌ مما جاء في كتابِ الطين…

Wait 5 sec.

 عبد القادر حكيمرائحة ابطها الزنخة، والألم في عضلات رقبته، وضياء الفجر الذي كان يموت رويداً رويداً في عينيه، مع ازدياد وتيرة الضغط، والوقص، هي التي قفزت إلى وعيه حال استفاقته من غيبوبته، التي لم يكُيدري حينها كم لبث فيها.. بيد أن التفاتة ساهية منه، وناقمة، إلى النافذة المفتوحة في مكتب مدير الشرطة، جعلته يخمّن الزمن الذي استغرقه منذ اقتياده إلى ذلك المكان سيء الصيت؛ إذ كان ظل شجرة مامونا العتيقة (1) على رصيف الطريق المؤدية إلى الـ ( جيرافيوري)(2) قد ساح قليلاَ على نحو يمكن – لشاعرٍ مثله ملاحظته.– ” إسمك؟”..يسألُ البدين المتذاكي، ذي الصوت الجارح كثغاء عنزة– ” أدنّا”..-” ماذا؟!!”ثابت الجنان، يركّز عينيه في عيني البدين، مما يجعل الابتسامة الهازئة لمحدثه تتلاشى، وتتدحرج عارية لتضطرب على فمه، بأسنانه البارزة، وشفة هدلاء، يتناثر منها اللعاب. ثم رابط الجأش، يجيبُ:-” إسمي أدنّا أسنّاي”دفعاً، دفع به دفعاً، نحو ركنٍ قصيّ في الغرفة الواسعة، أمسك بتلابيبه وهو يثغو.. لم يفهم كلمة واحدة مما كان يقول به مهدداً إياه بالويل والثبور، وسط ذهول جميع من كان حاضراً من افراد العسس. ولدهشته، تذكر حشرة كافكا، فضحك مقهقهاً؛ انهالت عليه السياط من كل صوبٍ وحدب. شعر بالغضب، والمهانة. تبدلّت قهقهاته إلى ثورة عارمة، فصاح صيحته الخاصة:-” أنا! هَوَّكَر!”..(3)انفرط العقد المدجج بالسياط من حوله، وهتف اكبرهم سناً:-” تي تيريقي دونلاقا!!”..(4)احتقنت وجوههم؛ واستطاع أن يلمح طيفاً من ندمٍ ممزوج بأسى في ملامحهم التعبة. فكّر أدنّا: ” ربما يندبون حظهم العاثر الذي جعلهم أداةً طيعة لقائدهم، يأمر فيطيعون.أمرهم بمواصلة الضرب. رفضوا رفضاً قاطعاً. ثم أحاطوا به، بقائدهم الصلف؛ بأجسادهم الضامرة يدفعون الأذى عن الشاعر، لا يتحركون قيد انملة، كأنما بذلك يعتذرون بتلقّي الضرب عوضاً عنه. مرّة أخرى، أكبرهم، يضيق ذرعاً، يصرخ :– ” هو لا يسخر منك يا هذا!.. اسمه بالفعل هكذا كما هو في بطاقته، والتي هي معك، تأكّد بنفسك، هيا.. انظر اليها!”.بعد مرور سبعٍ عجاففي زنزانته، التي نُقل إليها حديثاً، في صحراء دنكاليا، يجلس أدنّا إلى الشعر، تتأبّى القصيدة، تتمنع كأنثى عصية على الترويض؛ تغور الفكرة في البعيد الذي يزداد ايغالاً كلما أمعن هو في محاولاته الدؤوبة في استمطارها.. يغمض عينيه كي لا يرى غير(آشلي)، حبيبته، فيرى عتمة فجرٍ بعيد، باردٍ، موحش، تخرج منه تلك الشرطية ورائحة ابطها الزنخة، كما تخرج الديدان من جيفةٍ عافتها الرخم. كان في طريقه إلى الجسر، وكان سيستعين بتلك العتمة، بعد أن يسندها بالخيالِ، في تعبئة جسد ميتادا النحيل(5) بالماء، حتى يفيض، فيكون بإمكانه أن يشتمّ رائحة الطمي، والعشب المبتل على ضفتيه، ويستمع إلى شقشقة عصافير الدوري على أشجار التمر هندي، وإلى وجيب قلبه الأربعينيّ العاشق. اجتاز الجيرافيوري، جميع المحال التجارية مغلقة، وكالعادة، كان المركز الرئيسي للشرطة يعج بالحركة، في ذلك الوقت المبكر من يوم جديد. جند مدججين بأسلحتهم الخفيفة، يتحركون على شكل مجموعات، على طول الطريق حتى الجسر، وعلى المسالك الحجرية المتفرعة عنه. تحسس جيب جلبابه، كانت بطاقته العسكرية لقدامى المحاربين، قابعة هناك، وخطاب اعفاء عن الخدمة صادر عن وزارة الدفاع، في جيبه الآخر.. من خبرته الطويلة كقائد ميداني، تعوّد على ألاّ يلقي جميع أسلحته دفعة واحدة. بدربة، استلّ بطاقته من قعر جيبه، وقدّمها لهم. تركوه يمرّ، في اللحظة التي قدمت فيها إلى المكان وهي تخبّ،امرأة ثلاثينية؛ قالت لهم: ” إنها نسيت بطاقتها في دارها، لأنها كانت على عجلة من أمرها، للحاق بأمها التي كانت تحتضر”.. رفضوا السماح لها بالعبور، أخذت تتوسل إليهم، وهي تنوح، وتتشظى من هول الموقف:-” لديّ طفل رضيع في الدار تركته مع جدتي!”وإذ ذاك، وكما لو كانت فارساً من القرون الوسطى، ترجّلت الشرطية المسترجلة من على سيارة الدفع الرباعي المرعبة، وقالت لها وهي تشير بعصا في يدها إلى صدرها:-” وكيف لنا أن نصدقك؟.. دعينا نرى ثدييك!”بعد مرور أحد عشر عاماًصاروا يسمحون له بالجلوس على مقعدٍ خشبيّ متهالك، عند استجوابه نهاية كل أسبوع؛ يسألونه ذات الأسئلة، ويجيبهم بتغيير طفيف في الشكل، دون المساسبجوهر الإجابة، يفعل ذلك كتمرين لكي لا ينسى اللغة؛ وإذ يشعر أنه في بحثه الممتع عن اشتقاقات ومرادفات جديدة، عن كلمات استخدمها من قبل، إنه أتى بكلمة لها دلالات متعددة، ومن شأنها، بالتالي، حرف كلامه إلى الضد، تتسع عيناه، وتلتقيا مع عيني مترجمه، لثوانٍ معدودات، في حوارٍ قصير، له نشيش الماء، وطشيش النار، وخفقة جناحي طائر جريح، ونخير جملٍ يُذبح، متجاوز، وعابر، للضابط الجالس قبالته على مقعددوار، ينتظر الإجابة، ويرهقه التفكير عن تحوّلات سجينه، إذ يبدو له سعيداً، لكنه، أي الضابط، سوف لن يجرؤ على سؤاله؛ فإذا صار- نتيجة تحولاته الأخيرة – يجيب على التهم الموجهة إليه على هذا النحو من الطول، فكم سيستغرقه الأمر للإجابة عن سؤال السعادة؟!.. “لكن هل هو سعيدٌ حقّاً في هذا المكان البائس؟!.. إذن ما سرّ الشغف الذي صار يتمتع به إذ يجيب على اسئلتي؟!”..-” هل اعتديتَ بالضرب على الشرطية؟”-” ما كنتُ سأسمح لها أن تهين تلك المرأة المرضعة”يتظاهر المحقق بالكتابة على دفتر متهرئ أمامه على المنضدة الوثيرة، للحيظات، ثم يسأله مجدداً وهويحكّ بأظافره مؤخرة رأسه، وتجحظ عيناه قليلاً على نحوٍ يربك استنتاجات أدنّا التي أخذت تنمو داخل عقله؛ إذ بعد ما اكتشف قدراته على قراءة لغة الجسد لدى المسؤولين والمحققين والوشاة في السجون التي تنقّل فيها، ها هو يعجز الآن عن فهم دلالة التعبير الذي يقول به الوجه الذي أمامه، بعد أن حرّك صاحبه يده كما لو كان انساناً آليّاً، وأسندها على كوعها، على سطح المنضدة الزجاجي اللامع، وطفق يطالع أظافرها، لوهلة، بعد إنجازها لمهمتها في الهرش العظيم!..-” لماذا اللف والدوران والفلسفة؟ هااه؟.. أسئلة كهذه اجاباتها لأ أو نعم.. مفهوم؟”-” يمكنكم التوقف عن سؤالي إذن!.. حينها سأتحدث لجدران زنزانتي، وللرياح الدافئة القادمة من البحر، وللقالق في هجرتها نحو اقاصي الأرض، ولوردة وحيدة تتفتح هناك على التلال البعيدة، وللصبايا المطهمات في الصباحات الصيفيةالصافية يردن الماء في بالاكا(6)..سأتحدث للروح المنكسرة والقلقة لتلك الأم المرضعة، والتي لم تودّع أمها كما يجب، ولم تطعم صغيرها.. و”يقاطعه الضابط، الذي دعك سيجارته نصف المشتعلة، على المنفضة، ثم بهدوء لا يتناسب وحالة النزق التي كان عليها، طلب من الحارس أن يصطحبه إلى زنزانته.وهو يُساق إلى زنزانته، كما لو أن ذلك يحدث له للمرة الأولى؛ مكبّل اليدين والقدمين؛ تذكّر أدنّا كيف كان في زمان آخر يتحاشى الوقوع في الأسر، وكيف كان يكسب معاركه تلك. أخذ يتذكّر، ويتذكر، ويتلظّى بالأسئلة، بينما في الخارج، في ذلك الليل الطويل، كانت الجبال من حول المكان تردد صدى صوت النّهّام، القادم من مركبٍ لمجموعة صائدين كانوا يعبرون البحر إلى الضفة الأخرى._________________________________هوامش:1/ شجرة مامونا: من المعالم التاريخية لمدينة بارنتو في غرب إرتريا.2/ جيرافيوري: دائرة الورد، باللغة الإيطالية.3/ ” أنا هَوَّكَرْ”: بلغة نرا، صيحة فخر خاصة بالأفراد، تختلف عن تلك التي لها مدلولات قبلية معينة.معناها: أنا أخو حوّا.4/ تي تيريقي دونلاقا: بلغة نرا، القاف في الجملة تُنطق جيماً مصرية، بمعنى ” توقّفُوا عن ضربه”.5/ ميتادا: نهر موسمي يمر بمدينة بارنتو في غرب إرتريا.6/ بالاكا: بلدة تقع بالقرب من مدينة بارنتو في غرب إرتريا.https://alantologia.com/blogs/81461/?fbclid=IwY2xjawIq389leHRuA2FlbQIxMQABHQDO1AYRvM7BvzJwSPVh0t3gd7UjSVXS-9gHg8yOrtvuJ0O8s56Hqqicqg_aem_iBd6F1IWlK3Zde3DM6HY3Q`The post بعضٌ مما جاء في كتابِ الطين… appeared first on صحيفة مداميك.