يعود بنا الشاعر الأردني حسين جلعاد، في مجموعته القصصية الأولى "عيون الغرقى" (المؤسّسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2023)، إلى الثمانينيّات، يستحضر شخصياتٍ مرهفةً مثقّفةً مسكونةً بقضايا الوطن والإنسان، ينتهي بها الحال إلى الخيبة والوقوع في اليأس، والإحساس بالعبث واللاجدوى نتيجةً طبيعيةً لهبوط سقف التوقّعات العالي على رؤوسٍ كانت مكتظّةً بالأحلام والأمنيات الصغيرة، والأمل بحتمية التغيير وبناء مستقبلٍ تتحقّق فيه العدالة والحرّية والأمن المجتمعي. طلاب جامعيون حالمون ثائرون، تُقمَع تطلّعاتهم، وتُبدَّد أحلامهم، وتُشوَّه طموحاتهم، ويُشكَّك بنيّاتهم.تجلّى ذلك واضحاً في قصّة "كائن سماوي"، التي تناولت أحداث جامعة اليرموك في إربد عام 1986، التي تُعدّ جزءاً مهمّاً من تاريخ الحركة الطلابية الأردنية، وقد أصبح شائعاً حينها تعبير "طالب يرموكي" رمزاً للتمرّد على القيود. استعاد جلعاد ملامح تلك المرحلة العصيبة المُلتبسة بلغة هادئة وسردٍ متماسك، بعيداً من الشعاراتية والخطاب السياسي المباشر.ضمّت المجموعة كذلك قصصاً لشخصياتٍ هامشية كادحة، مدقعة الفقر، مثل بائع العلكة الصغير في قصّة "الإسفلت والمطر"، الذي مات دهساً بالقرب من أسوار الجامعة، من دون أن يدرك سبب تظاهر طلاب الجامعة، لأنه كان منهمكاً في التقاط رزقه اليومي، وشخصية ماسح الأحذية في قصّة بعنوان "بويا"."أصبحت يده تحت قدم الرجل الأنيق الذي نهره قائلاً: لمّع يا مقرف. فردّ صاغراً: حاضر يا معلم. فغضب الرجل قائلاً: أستاذ يا قرد". غير أن الأستاذ الممتلئ بذاته، المستقوي على الصغير، وفي لقطة بالغة الذكاء، سرعان ما يتضاءل، ويغدو هادئاً وديعاً مثل عصفور كناري قبالة رجل الأمن، الذي هبط من سيّارة مظلّلة قاتمة السواد، واصطحبه بعيداً، لتأتي قفلة القصة البديعة بجملة "تطايرت أوراق الجريدة متزاحمةً مثل كلاب الصيد، ثمّ ما لبثت أن بعثرتها الرياح. كانت ورقةً تحمل صورة الأستاذ، وتحتها سطور كثيرة لم يميّز الصبي منها غير السواد".وفي قصّة "سيدي وقّاص" يتّكئ حسين على الموروث الشعبي والديني، ويأخذنا إلى عوالم الطفولة في بيئة أردنية بسيطة فقيرة، تطغى عليها أجواء الخرافة والسلطة الأبوية المطلقة، وشقاوة وتمرّد المراهقين وفضولهم الكبير تجاه العالم. وفي "المساء يطير غرباً"، التي يمكن عدّها روايةً صغيرةً (نوفيلا)، نلمس الخيبة والملل والخسارة والعزلة، والغياب النهائي للحُبّ، والسخرية المريرة، والتداعيات والتأملات، من خلال شخصية الرجل الكئيب، الذي يستعيد حياةً بأكملها شبّهها بالفيلم الهندي، لازدحامها بالأحداث الدرامية الحزينة. وتنتهي القصّة/ النوفيلا بسؤال موجع، يعكس رؤية الكاتب السوداوية العدمية: "من أي طينة هؤلاء الذين لا حظّ لهم بجنّة الأرض، ورغم ذلك يأملون بعدالة السماء".أمّا القصة الأخيرة "الخريف والشبابيك القديمة"، فإنها نواة ثمينة لعمل روائي متكامل العناصر لتنوّع مستويات السرد، وتعدّد الأمكنة والأزمنة، والعلاقات المتشابكة، وقد قسّمها الكاتب بين ستّ لوحات، بعناوين تصلح لدواوين شعرية: "قال الحلم له" و"نعناع المصاطب" و"البحر ينام أيضاً".تحكي القصّة/ مشروع الرواية حياة عدنان أيوب، المثقّف والفنّان التشكيلي المرهف، المأزوم الحانق، الساخر، الحزين، المسكون بالتوق إلى الماضي الغارق في الخيبة والكآبة، المتأمّل في معنى الحياة، وقد تمكّن الكاتب ببراعة من تفكيك المشاهد وإعادة تركيبها، وإحداث الصدمة لدى القارئ، الذي تورّط بهذا النصّ العميق المُركّب.أصدر حسين جلعاد ديوانَين شعريَّين: "العالي يصلب دائماً و"كما يخسر الأنبياء"، ولديه منجز كبير في عالم الصحافة الأدبية والسياسية. وتشكّل المجموعة إضافةً نوعيةً لسيرته الإبداعية، ومغامرةً قصصية بالغة الجرأة، في زمن تراجع فنّ القصّة لصالح الرواية، وهي عمل جادّ ملتزم، يتّسم بالحساسية والعذوبة والرهافة والبراعة في تجسيد الأمكنة والأزمنة، والتغلّل في أعماق النفس."عيون الغرقى" مجموعة قصصية مدهشة، كفيلة بتحريضنا على مواجهة الأحزان المتراكمة بغية الخلاص منها، مرّة وإلى الأبد.