في جدوى تنشيط المعارضة المصرية

Wait 5 sec.

على الرغم من مرور أكثر من عقد، ظهرت دعاية لترقية نشاط معارضة المنفى المصرية بالحديث عن انضمام قيادات جديدة، وهو ما يثير النقاش عن طبيعة الروافع الجديدة للنشاط السياسي في الخارج، وما يمكن أن تُقدِّمه في المرحلة التالية، وتطويراً للمقال السابق "معارضة المنفى المصرية والتدخّل الدولي" ("العربي الجديد"، 8/ 2/ 2025)، يمكن التناول المُقارن لاتجاهات ومكوّنات المعارضة، ومساهماتها في تقدّم أو تخلّف العمل السياسي، للاقتراب من ملامح الأداء السياسي واحتمالية تأثيره في فاعلية المعارضة.بترويج إعلامي محدود، كان إعلان انضمام شخصيات جديدة لمعارضة المنفى، في 11 فبراير/ شباط الجاري. ورغم انتشارها المثير عند نشر أخبارها للمرّة الأولى، كان استقبال ظهورها تقليدياً، وليس على قدر الدعاية السابقة، ليظلّ الجدل بشأن إمكانية حدوث تطوّر للمعارضة، وخصوصاً في ظلّ تزامنه مع تصاعد الخلافات بين مصر والولايات المتحدة حول مصير الوضع في قطاع غزّة، إذ يفرض قيوداً على المفاضلة ما بين توسيع نشاطها المُعارِض والتضامن لحماية الدولة من التهديد الخارجي. وعلى مدى حياة المعارضة في المنفى، شهدت الفصائل كلّها اهتزازاً تنظيمياً، وبجانب التفكّك المتتالي لتحالف دعم الشرعية ومكوّناته، سارت المنظّمات الليبرالية في الدرب نفسه. وبجانب سيولة التعريف التنظيمي لحزب الغد في المنفى، أطاحت الانقسامات المتتالية، في حركة الإخوان المسلمين، فرصةَ التوافق على قيادة أو هيئة قيادية، لتقف محاولات التشكيل عاجزةً أمام اختبارات التماسك. وخلال هذه الفترة، عانت المعارضة غياب القيادة، ليسود المشهدَ صراعٌ على الدوار اللاسياسي، ما أدّى إلى هزّ الثقة واستدامة الخلافات التنظيمية. وبالتالي، يرتبط تأثير المعارضة بمدى قدرتها في تعويض الغياب القيادي. وهنا، تساعد المؤشّرات التنظيمية في فهم السياقات اللاحقة لفاعليتها، ويمكن الاقتراب من مؤشّرَي الانتشار الجغرافي والتماسك الداخلي، في التعرّف إلى المكانة السياسية المُحتملة.بوادر إقلاع لدى الإخوان المسلمين عن التقليدية التنظيمية، باتباع أشكال التيّار التنظيمي أو تشبيك أنشطة المنصّات الإعلامية والسياسيةمن حيث الانتشار الجغرافي، يتوزّع أفراد المعارضة (ومقارّها) بين غرب أوروبا والولايات المتحدة وتركيا، ولتعويض تشتّت فواعلها، تحرص على الإقامة حيث سهولة الوصول إلى مراكز صنع القرار؛ البرلمان الأوروبي والمجالس التشريعية المحلّية، بالإضافة إلى مقابلات عابرة أو مُرتّبة مع المسؤولين التنفيذيين. وبجانب قيود الدولة المضيفة، يزيد تشتّت المقارّ من الاعتماد على التواصل الشبكي في عملية انتقال من الهياكل الهرمية الرأسية للشبكات المفتوحة، ما يجعلها أكثر انكشافاً وهشاشةً لا تقوى فيها على صياغة شروطها على الأطراف الأجنبية. وفي حالة الأحزاب الليبرالية، تبدو ظاهرةُ الشبكية حلاً طبيعياً، فهي امتداد لأحزاب صغيرة، تعتمد في نشاطها على مركزية دور الأشخاص أكثر من الهيئات القيادية، ومن اللافت ظهور بوادر إقلاع لدى الإخوان المسلمين عن التقليدية التنظيمية، باتباع أشكال التيّار التنظيمي أو تشبيك أنشطة المنصّات الإعلامية والسياسية. ومع محدودية تأثير "القيادة"، تتدهور مناعة المجموعات الإخوانية في المنفى أمام انسياب نفوذ دوائرَ خارجية، ما يرتّب تأثيراً مُضاعفاً على صناعة القرار التنظيمي أو بناء الموقف السياسي. كان تراكم هذه التغيرات نتيجةَ تعرّض مكوّنات المعارضة لضغوط متشابهة وإغراءات، شكّلت عامل إحباط لتماسكها الداخلي. وبغض النظر عن الخلافات المرجعية، تُفسِّر العوامل التنظيمية الانقسامات المتتالية في حركة الإخوان المسلمين، كما ساهم الخلاف الأيديولوجي في انهيار مشاريع وحدة المعارضة. يمثّل اندثار الجبهة الوطنية، والجمعية الوطنية، واسترخاء "اتحاد المعارضة المصرية"، ارتباط انحدار المعارضة بوجود المشكلات الداخلية، فقد تلازم انتهاء كلٍّ منها بخلافات حادّة حول طرق التمثيل والتنافس على الإمداد الخارجي. وبينما انتهت المحاولات بأزمات داخلية، تُعطي تجربة المجلس الثوري المصري صيغةً مرنةً لا تُرتّب على أعضائه مسؤولية مباشرة عن الأنشطة العلنية.وبعد مشوار من صعوبة التعايش فيما بين الإسلاميين والليبراليين، ظهرت مجموعة تكنوقراط مصر، تحت شعار "العلم هو الحلّ"، الذي يبدو ظاهرياً بديلاً لشعار "الإسلام هو الحلّ"، لتتحوّل، في وقتٍ لاحق حزباً تحت التأسيس في الولايات المتحدة، ليكون، إلى جانب تيّار الأمل وحزب "الغد"، مركزاً سياسياً في المنفى، حتى سقوط النظام. وإزاء هذه التطوّرات، بدت صعوبة عقد مشاورات ما بين الإسلاميين ومجموعة تكنوقراط مصر، لأسباب التشكّك في الأهلية السياسية للجماعات الإسلامية. وكما التحالفات المرنة كلّها، شكّل اختلاف الخصائص التنظيمية عاملاً حاسماً في تنافر المعارضة. فمنذ بدء تحالف دعم الشرعية وانتهاءً بفشل محاولات عقد حوار بين الإخوان المسلمين و"تكنوقراط مصر"، تراخى العمل المشترك تحت سقف غَلَبة دور المجموعات الكبيرة، وتمسّك التنظيمات الصغيرة بقاعدة الحصص المتساوية، لتتضافر عوامل التباعد في إثارة تنافسية داخلية، أدّت إلى إحباط اتحاد المعارضة المصرية، وزوال الميزة النسبية للمنظّمات كبيرة العضوية، في مقابل زيادة التأثير النسبي لأفراد وأحزاب صغيرة.من المشاهدات اللافتة للانتباه، ما يتمثّل في انتقال المعارضة من التفاوضية إلى التشدّد، عندما استقرّت في المنفى. في وقت مبكر (16 نوفمبر/ تشرين الثاني 2013)، طرح التحالف الوطني لدعم الشرعية ورفض الانقلاب ورقةَ "رؤية استراتيجية"، خَلتْ من مطلب عودة الرئيس محمّد مرسي، واستبدلت بها عودة الديمقراطية، لتكون أساس حشد المعارضة، غير أنه لسنوات لاحقة، أكرَهت حركة الإخوان تحالفات المعارضة على التعايش مع شرط "الشرعية"، لتضع المعارضة أمام الحاجة لإعادة صياغة الشعارات والمطالب مع التغير الدائم للظروف.وفي السنوات اللاحقة، ومع وجود تسهيلاتٍ في الخارج، تعزّز التشدّد مع سهولة الظهور في وسائط الإعلام، ومحاولة المعارضين محاكاة التجارب السياسية، وصعود تطلّعات الإطاحة بالنظام. داخل نطاق المعارضة، وبينما يتبنّى بعض الإسلاميين الثورة المُسلّحة، استقرّ موقف روافد الحركة المدنية الديمقراطية على التغيير السلمي، وتصوير ما حدث في سورية نتاجاً لحرب أهلية، ساهمت فيها عوامل خارجية. ومع نمو التشدّد في المنفى، لم تصمد محاولات التفكير في التسوية السياسية أمام التركيز على إزالة النظام والاستغراق في ثنائية ثورة وانقلاب. هذه الوضعية هي نتيجة مباشرة لوقوع الموقف السياسي في أزمة قراءة الواقع، وكثافة الاعتماد على المؤثّرات الخارجية المصاحبة لحالة المنفى، فلم يكن الكلام عن العودة لثورة يناير (2011) مشفوعاً باستناد الذاكرة إلى وعيٍ بخريطة مطالب المجتمع والدولة.على أيّ حال، لم تكن علاقات أطراف المعارضة مُريحةً، فقد شكّل تنافس مساعي الهيمنة الفكرية الأرضيةَ المناسبة لتضاؤل فرصة إنضاج البرامج السياسية، فتوقّفت المحاولات عند توصيف أخطاء النظام الحاكم، وسارت في نشاط موسمي نحو صياغة مسودات عن التحول الديمقراطي والمراحل الانتقالية بعد سقوط النظام. ومنذ نشرها بيان "مطالب الشعب المصري" (25/1/2023)، ركّزت المجموعات المدنية في تنحّي رئيس الدولة لفشل جميع سياساته. وبينما يتّسع تحذير المعارضة من انهيار الحُكم، لم تتجاوز تصوّراتها الإجراءات التصحيحية من دون طرح نظرية بديلة للتنمية. وبينما تهتزّ ثقة "الإخوان" في المجموعات "الليبرالية"، تشير بيانات وتصريحات الأخيرين إلى احتقار مساهمات الإسلاميين، وتصنّفهم في مساحةٍ بعيدة من العمل السياسي، إذ يتشدّد خطاب التيّار المدني في استبعاد الإسلاميين من المشاركة السياسية، ولم يمنع هذا الموقف من ظهور اتجاهات بالإفراج عن سجناء الرأي. لا تكفي هذه المساحة المحدودة لتنمية المساحات المشتركة، إذ تقوم التفضيلات على أيديولوجيات مُتعارِضة، تقتصر فائدتها على المشاركة في تحالفات اضطرارية.اكتفت المعارضات المصرية بتوصيف أخطاء النّظام، وصياغة مسودات التحوّل الديمقراطي بعد سقوطهورغم شدَّة الخلاف، تلاقت كيانات المعارضة على مواقف سياسية، كان أكثرها أهميةً الهجوم الدائم على رئيس الجمهورية واعتباره العقبة الرئيسة أمام الإصلاح السياسي، وأن سياساته غير كافية لحماية مصالح الدولة، إلى حدّ تأييد مثوله أمام القضاء الإيطالي مترافقاً مع تدشين حزب تكنوقراط مصر، بشعار "لازم يمشي". انعكست هذه القناعة على مواقف المعارضة من السياسة الخارجية، وبغض النظر عن ماهية حملات المطالبة بفتح معبر رفح، ظهر اختلاف في مواقف المعارضة. وتحت ذريعة رفض الاصطفاف، استقرّت غالبية الإسلاميين عند رفض التهجير مبدأً إنسانياً، مع إشارات محدودة لخطره على الأمن القومي. وعلى خلاف ذلك، حاولت المجموعات الليبرالية والحركة المدنية تناول الأزمة في سياق مساندة نظام الحُكم في هذه الأزمة، من دون أن ينسحب على قضايا أخرى.وفي مستوى آخر، تشارك الإسلاميون واليسار في دعم محور المقاومة، لكن بعد انهيار نظام "البعث" السوري، حدث افتراق تجاه الوضع الجديد، فبينما رحّبت الحركات الإسلامية بالثورة، رأت مجموعات اليسار انهياره خسارةً لنظام نضالي ضدّ الصهيونية. وبغض النظر عن موضوعية التوافق والاختلاف، إلّا أنّ ذلك يكشف اهتزاز الأرضية المشتركة وسقوطها مع اختبارٍ في المرجعية الفكرية. في حالات أخرى، تَصلّبت مواقف فِرَق المعارضة عند المستوى البدائي للأيديولوجيا، لتظهر الخلافات العميقة. كان التماثل الأكثر أهمية في التواصل مع الحكومات الأجنبية، باعتبارها مصدر قوة سياسية، من دون حساسية لمراجعة هذه الممارسات، لتظلّ من المناشط التقليدية في السنوات الماضية، إذ استرخت تنظيمات المنفى في أوروبا والولايات المتحدة، في تكرار التواصل مع الحكومات الغربية والبرلمان الأوروبي لطلب المساعدة في إزالة الاستبداد، وتوطين الديمقراطية، لكنّها لم توضح شروط أو اتجاه هذه العلاقة، وتأثيرها في حالة الحُكم بعد الخلاص من النظام القائم. تبدو هذه النقطة جوهريةً في فهم مُدركات السلوك المُعارِض لضمانات الاستقلال الوطني، بعد انخراطٍ واسع مع المؤسّسات الأجنبية. وهنا، تكمن أهمية الالتفات لدور العامل الخارجي في التأثير على مستقبل التغيير السياسي، وسيطرة الفاعلين الجدد على موارد الدولة.تكشف سياقات المعارضة المصرية لطائف الاستغراق في الحال الراهن، من دون النظر إلى مستقبل مساهماتها السياسية، إذ تنحصر تفاعلاتها كلّها في الخلاص من رأس السلطة، وهو ما يتّسق مع ارتباك أطرها التنظيمية والقدرة الفائقة على استدعاء الخلاف الأيديولوجي بطريقة تثير التشكّك في قابلية التعايش بعد الوصول إلى السلطة أو الاستيلاء عليها. وكان لافتاً القبول بالدعم الخارجي والركون إليه مصدراً أساساً، سواء في استمرار وجودها أو مساعداً لتحقيق أهدافها، لتتراكم ثقافة التبعية وتتراجع قدرة الاعتماد على الذات.