خالد الخمليشييستعيد الأكاديمي والمترجم المغربي خالد اليملاحي في روايته “استحضار نصب تذكاري في البندقية” شذرات من حياة المهاجر الغامبي باتيه سابالي، الذي ألقى بنفسه ذات شتاء من عام 2017 في القناة الكبرى بالبندقية. الحادثة التي خلقت جدلاً كبيراً، وحظيت باهتمام واسع من وسائل الإعلام العالمية، نظراً لرمزية المدينة وحجم المأساة، شكّلت نقطة انطلاق المؤلّف لتقفي آثار الشابّ الغامبي، في محاولة للكشف عن بعض الجوانب المُبهمة في هذه الحادثة المأساوية، داخل عمل يمزج بين الخيال والواقع بأسلوب بالغ الشعرية. الرواية الصادرة عن “منشورات الحضور الأفريقي” في باريس سنة 2023، تنقسم إلى ثلاثة أجزاء عنوَنها الكاتب بثلاث كلمات: المياه، والصراخ، والكلمات، في إشارة منه ربّما إلى العناصر الأساسية في تجربة الكتابة عن هذه الفاجعة.يبدأ الكتاب بالإشارة إلى نقطة محورية: لا يهدف العمل إلى التقصّي عن هذه المأساة بشكل صحافي، بل الاستنجاد بقوة الكتابة، لاستحضار هذه الفاجعة في سرد أدبي وشعري، بغية الإحاطة بجوانب إنسانية ووجودية لا تستطيع التحقيقات الصحافية أو الشهادات البسيطة الوصول إليها. ففي قوّة الخيال والكلمات، مواجهة لعجزنا المشترك، ومسؤوليتنا الجماعية، تجاه مآسي المهاجرين: “أعتقد أنني كنت أخشى أن أجد نفسي، دون إرادتي، في جَلْد الصحافي أو المحقّق. أنا لستُ أياً منهما. أكتب بكرامة المهزومين. لا أسعى إلى كسب معركة، ولا إلى الكشف عن حقيقة. فقط أبحث عن حفر أثر في الذاكرة الجليدية لاختفائك”، كما يؤكّد الراوي الذي يجسّد شخصية كاتب في هذا العمل، مستعملاً في العديد من الأحيان ضمير المخاطب طيلة الصفحات المئة والسبعين للرواية، في محاولة محاكاة محادثة مباشرة مع الغائب. يتتبّع الكتاب رحلة باتيه من مسقط رأسه في بانجول، غامبيا، وصولاً إلى إيطاليا، حيث يسلّط الضوء على أجزاء مختلفة من حياته، بدءاً من طفولته، مروراً برحلته الكبرى نحو القارّة الأوروبية، وانتهاءً بالبندقية حيث ختم آخر فصل في حياته في ربيعه الثاني والعشرين.تبرز البندقية في الرواية كفضاء مليء بالتناقضات والتوتّرات: فموت وغرق باتيه في هذه المدينة الشهيرة بجمالها الساحر ومتاحفها العديدة وكلّ الحمولة الرومانسية المرتبطة بها، يُضفي طابعاً تناقضياً مع فضاء يعجّ بالحياة والسُّيَّاح ومظاهر المتعة والترف، ممّا يدفع الكاتب لطرح فرضية كون باتيه اختار طواعية إلقاء نفسه في مياه القناة لما تمثّله في المخيال الجماعي الأوروبي والعالمي والصدى الدولي الذي يُمكن أن يأخذه هذا الحدث، ربّما لأجل إسماع صوت معاناة الأجانب والمهاجرين بصورة أكبر “أتساءل إذا كان الطابع الاستثنائي لمدينة البندقية له علاقة بقرارك. محطّة أخيرة لإنهاء الخرائط، والمخطّطات، والوصف. وجودك الوحيد في البندقية يساوي جميع الخُطب وجميع التفسيرات… لماذا البندقية؟ لتصرخ للعالم بجرحك أم لتترك فقاعة صمت في الضوضاء؟”. أسئلة وفرضيات يطرحها الراوي دون أن يستطيع الجزم في أي تأويل مُمكن، مُبدياً في الوقت نفسه تحسُّره لتجاهل الجميع هذه المأساة “هذه الحقيقة الأولى: زار العالَم كلّه البندقية، ولكن لا أحد اهتمّ حقاً بموتك. مدينة-كون لوفاة صامتة. مدينة-متحف للوحة غير مرئية”، كما لو أن العالم لا يريد رؤية أزمة المهاجرين، على الرغم من بروز معالمها بكلّ وضوح.فمن خلال نحت هذا النُّصب التذكاري، يصبو المؤلّف إلى إخراج قصّة باتيه من دهاليز الإحصائيات والأرقام الباردة والصور النمطية التي تختزل حياة المهاجرين، وتحوّلهم إلى جماعات دون هويّة خاصة ولا سرديات فردية، وهي الرؤية التي تمثّلها نوعاً ما شخصية ألما الأميركية في الرواية. يغوص الكتاب كذلك في تجربة مهاجرين مختلفين من جميع دول أفريقيا وشمال المغرب الذي يُعتبر منطقة عبور نحو “العالم الآخر”، مثل مدينة الفنيدق، والقرية الساحلية واد لاو قرب مدينة تطوان، وكذلك معاناة المهاجرين في مصراتة، المدينة الليبية التي تعتبر نقطة سوداء في مرحلة عبور الصحراء الكبرى، فيدرج المؤلّف أيضاً أصوات عابرين آخرين، قواربهم الصغيرة، موتهم في البحر الأبيض المتوسط، معاناتهم ومآسيهم، وتراجيدياتهم لتحقيق حُلمهم، فيُضيف بنبرة تحسّرية “مع قصص اللاجئين، يُمكننا تأليف قاموس للهزيمة الجماعية. كلّ يوم، وجه، اسم أو صورة ستضيف مدخلاً جديداً”.ولعلّ الإهداء الموجود في بداية الكتاب “إلى ذاكرة الأفارقة، الذين ماتوا بعيداً عن أراضيهم، مدفونين في الصمت والنسيان” خير دليل على إيمان المؤلّف بضرورة إسماع صوت المهاجرين الأفارقة، وإحياء ذكراهم مع كلّ الرمزية التي يكتسيها الخوض في هذه المأساة من طرف كاتب عربي من شمال أفريقيا، وكسر احتكار السرديات المرتبطة بالمهاجرين الأفارقة، وبالكتّاب ذوي الأصول الأفريقية جنوب الصحراء، ممّا يُبيّن أنّ قضيّة المهاجرين هي أساساً قضية إنسانية فوق كلّ اعتبار عِرقي ديني أو جغرافي.بعيداً عن اللغة المأساوية، يحاول خالد اليملاحي تقريبنا بخطاب شاعري من الأسباب الخفيّة التي ربما دفعت باتيه للقيام بهذا الفعل، مُحتفظاً بمناطق الظلّ التي تظلّ حاضرة كلُغز يصعب تفكيكه. فرغم اعتماد الكاتب على معطيات واقعية استجمعها من الصُّحف ووسائل الإعلام والشهادات المُصوَّرة والمنشورة على وسائط التواصل الاجتماعي والصور العديدة التي صادفها خلال هذا “التقصّي” إلا أنه اعتمد في العديد من المواقف والمشاهد على مخيّلته، ليملأ الفراغات ونُقط الاستفهام المحيطة بموت باتيه، مستنجداً بالأسلوب الافتراضي.خالد اليملاحي.. كتابة ضد النسيانففي العديد من الأحيان، ينغمس الراوي داخل جسد باتيه متخيّلاً أفكاره، ومشاعره، وأحلامه البسيطة، وهمساته الخفيّة، وارتعاشات جسده الضئيل، ومخاوفه وتوجّساته، داخل عالم يحسّ فيه بالضرورة بمشاعر الاغتراب. على الرغم من حضور هذا البُعد الإنساني المهمّ في الرواية، فإن الإشكاليات الأدبية والإبداعية تبقى موجودة في نسيج النَّصّ. إذ تعبر مسألة الكتابة واختيار النوع الأدبي المناسب، بصفة منتظمة، جميع صفحات الرواية، كون الكاتب لا ينفك عن ذكر عجز الكتابة عن إيصال صوت الغائب، وعن الطريقة التي يُمكن بها تناول موضوع هذه الفاجعة، من دون الانزلاق في المعجم السوداوي وخطاب الضحية.يظلّ الكاتب يُسائل عملية الكتابة بحدّ ذاتها في قالب شاعري لا يخلو من عبارات التردُّد والعجز والألم. في كلّ صفحة، هناك تأمّل حول الكتابة، حول كيفية الكتابة، حول مفهوم الكتابة وقدرتها على مواجهة هذه المأساة: “كلّما حاولت ترتيب ملاحظاتي، أُواجه هذه الحقيقة: قد لا يوجد أي شكل من أشكال الكتابة يمكن أن يستوعب مأساتك. لا الخيال ولا السرد. لا الاعترافات الخيالية ولا السيرة الذاتية الشعرية أو الروائية. هذا النُّصب التذكاري يشبه البحيرة الشاطئية، قطع من الأرض محاطة بالماء وعدم اليقين. ذرّة من الغبار، موكب من التحطّمات، حُطام لا يُمكن جمعه سوى بطعم الهزيمة الثابتة”. في ظل هذا الوضع “يتلعثم السرد” و”تتبعثر الجمل”، فيتساءل الراوي: “كيف يمكن أن نروي اختفاءك سوى في نسيج نصّ متقطّع؟”، فتصبح الكتابة الوحيدة المُمكنة هي الكتابة الشَّذرية والمُتقطّعة.هذا التوتّر والاضطراب في عملية الكتابة وماهيتها قد يُفسّر نوعاً ما اعتماد المؤلّف على الصُّور الفوتوغرافية، من خلال التعليق على مجموعة منها، ربّما لكونها أقرب إلى رسم ملامح مآسي المهاجرين بصدق أكبر، يُغني عن الكلمات الرنّانة. فتحضر الصور بقوّة من خلال تحليل بعضها، ومحاولة قراءتها، وتمحيصها داخل مساحة النَّصّ الإبداعي، ممّا يُضفي طابع ألبوم صور مكتوب يُنْطَلَق منه للتأمّل في أحداث أو قصص معيّنة. تلعب الصور كذلك دور الرابط بين واقع معاش وواقع متخيّل بحفظها ذاكرة لحظات قد خلت، ويجري إحياؤها عن طريق الكلمات التي تُعيدها إلى سطح الذاكرة، مع كلّ ما تضيفه الكتابة من دلالات لا مرئية تُتيحها قراءة المؤلّف لصُور المهاجرين في سياقات مختلفة.يتضمّن الكتاب بشكل منتظم “توقّفات” عند الصُّور: صور لباتيه كطفل، ولباتيه كمهاجر، ولباتيه ميت، ولباتيه كإنسان أسود، وسلسلة من التعليقات على هذه “الصور المكتوبة” للعديد من المهاجرين، تكشف انجذاب الراوي للفن التصويري، و”تلك الرغبة في التوقف عند الصور وترك النَّفس تغوص في تأمّلات افتراضية حول معنى رحيلك”، كما يؤكّد في أحد اعترافاته. هكذا تصبح الرواية كألبوم يجمع بين الصور الشعرية والصور الفوتوغرافية المكتوبة، والكتابة الشذرية والمتقطّعة هي الأسلوب الوحيد الذي يستطيع جمع حُطام هذه الذاكرة المكسّرة من حياة باتيه، على الرغم من هذه الرغبة المُلحّة التي تُفصح عن إغراء الصور، والتشكيك في جدوى الكلمات، من خلال هذا الاعتراف الأخير “كنتُ أتمنى لو كنت مصوّراً لأضع حدّاً لحُكم الكلمة الطنّانة”.رواية خالد اليملاحي، الحائزة عدة جوائز مؤخّراً، تبدو كصرخة حيّة نحو ضمير الإنسانية لتجاهله المستمرّ أزمة المهاجرين التي تزداد حدّتها يوماً بعد يوم، دون التفكير في سياسات جديدة تحدُّ من معاناة المهاجرين ومعضلة اللاجئين، لكي نسكن عالماً أكثر عدالة، من دون معجم العنف وخطاب الكراهية الذي يستعمل ضدّ الأجانب في العديد من بقاع الأرض.* كاتب من المغربhttps://www.alaraby.co.uk/culture/%D8%AE%D8%A7%D9%84%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%85%D9%84%D8%A7%D8%AD%D9%8A-%D8%B3%D8%B1%D8%AF%D9%8C-%D9%8A%D9%8F%D8%B0%D9%83%D9%91%D8%B1-%D8%A8%D9%85%D8%A2%D8%B3%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%87%D8%A7%D8%AC%D8%B1%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%81%D8%A7%D8%B1%D9%82%D8%A9The post خالد اليملاحي.. سردٌ يُذكّر بمآسي المهاجرين الأفارقة appeared first on صحيفة مداميك.