مستقبل الثقافة في العصر الرقمي

Wait 5 sec.

منذ أن بدأ الإنسان بإبداع الفن ورواية الحكايات ورسم العالم من حوله، كان الإبداع تعبيرًا عن الذات والهوية وسعيًا لفهم الوجود والتفاعل معه. لم تكن الموسيقى مجرد أنغام، ولا الأدب مجرد كلمات، ولا الرسم مجرد خطوط، ولا الرقص مجرد حركات، بل كانت ولا تزال هذه التعابير البشرية بشتى أنواعها تشكل امتدادًا لتجربة الإنسان في إدراك المعنى والتساؤل عن كنه العالم والتعبير عن قضايا مصيرية وأسئلة وجودية عدة.فعندما قال الرسام الفرنسي، إدغار ديغا، في القرن التاسع عشر، إن "الفن ليس ما تراه، بل هو ما تجعل الآخرين يرونه"، فإنه كان يركز على تجربة الآخر في تصور وإدراك كنه العمل الفني. وهو ما يقارب مقولة عازف التشيلو الياباني المعاصر يويو ما: "لقد كانت قوتنا الثقافية مستمدة دائمًا من تنوع فهمنا وتنوع خبراتنا"، ما يؤكد أن التجربة الفنية والثقافية الإنسانية تتجاوز الأدوات التي يصنع بها العمل نفسه، كي تخوض في إيحاءاته ورمزياته وما تحمله هذه التجربة من ذاكرة جمعية وشحن عاطفية.‬لكن ماذا يحدث حين تتدخل الخوارزميات والذكاء الاصطناعي في المشهد الثقافي؟ وكيف يمكننا أن نحافظ على ثراء التعابير الثقافية في عالم تُشكّله الشركات التكنولوجية العملاقة والأنظمة الذكية التي تتعلم وتحاكي وتخلق؟‬أن يكون الذكاء الاصطناعي أداة في يد الفنان، وليس بديلًا لههذا التساؤل لم يعد افتراضًا فلسفيًا، بل أصبح حقيقة ملموسة دفعت "منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة" (يونسكو) إلى تكليف مجموعة تفكير دولية لدراسة العلاقة بين التكنولوجيا والثقافة في العصر الرقمي، وذلك لتحليل التأثيرات المتزايدة للذكاء الاصطناعي والمنصات الرقمية على التنوع الثقافي، وتقديم رؤى وتوصيات تحمي الإبداع البشري من الانجراف في مسار أحادي تفرضه الخوارزميات.بصفتي عضوًا في "مجموعة التفكير حول تنوع التعبيرات الثقافية في البيئة الرقمية"، عملتُ مع هذا الفريق الدولي المكون من 18 خبيرًا على دراسة التحديات والفرص، واقتراح حلول عملية تضمن أن يكون التحول الرقمي فرصة لتعزيز التنوع الثقافي وليس لطمسه.على مدار سنة كاملة، وعبر اجتماعين رئيسيين في مدينة كيبيك بكندا (28-30 أيار/ مايو 2024) وباريس الفرنسية (6-8 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024)، توصلنا إلى 11 توصية رئيسية نُشرَت في كانون الأول/ ديسمبر 2024، وقُدِّمَت أخيرًا أمام اللجنة الحكومية الدولية لاتفاقية 2005 لـ"يونسكو" بباريس يوم 13 شباط/ فبراير 2025.لم تكن مناقشاتنا مجرد تمرين أكاديمي، بل كانت مواجهة مباشرة مع واقع جديد، حيث لم يعد الفن والفكر والموسيقى واللغة في مأمن من تأثير تقنيات الذكاء الاصطناعي. هذه التكنولوجيا، التي وُلدت أداةً مساعدة، أصبحت اليوم قادرة على توليد اللوحات وتأليف الموسيقى وكتابة الروايات وترجمة الكتب وصنع أفلام قصيرة وحتى تقليد الأصوات البشرية.هذه التوصيات لا تهدف فقط إلى تنظيم العلاقة بين التكنولوجيا والثقافة، بل تسعى لضمان مستقبل رقمي أكثر عدالة وتنوعًا، يحترم حقوق المبدعين والمجتمعات الثقافية المختلفة. فكيف نضمن أن تظل هذه الأدوات في خدمة الإبداع البشري بدلاً من أن تحل محله؟ وكيف يمكن تحقيق ذلك؟ولكن قبل الحديث عن هذه التوصيات، دعونا نتوقف قليلاً عند التحديات التي يفرضها العصر الرقمي على الثقافة اليوم.بين سطوة الخوارزميات واختفاء التنوعإذا نظرنا إلى التاريخ، نرى أن التنوع الثقافي لم يكن يومًا نتاج سلطة مركزية، بل جاء من التفاعل العفوي بين الشعوب، من الاحتكاك بين الثقافات، والتلاقح بين الأفكار، والتجارب المشتركة. ولكن عندما تصبح الثقافة مرهونة بخوارزميات ترويجية مملوكة لشركات خاصة، فإننا نواجه خطر تحول الإبداع إلى منتج نمطي، يُبرمج وفقًا لمعايير استهلاكية، بدلًا من أن يكون تجربة إنسانية حقيقية...في عصر تهيمن فيه المنصات الرقمية الكبرى مثل "يوتيوب" و"نتفليكس" و"سبوتيفاي"، لم يعد المحتوى الثقافي يتنقل بين الناس بحرّية كما كان يحدث في الأسواق والمكتبات والمسارح، بل لا يصل حتى إلى الجمهور بطريقة عشوائية أو طبيعية كما كان في الماضي. بدلاً من ذلك، فالخوارزميات تتحكم اليوم في ما نراه ونسمعه ونقرأه، حيث تحلل سلوك المستخدمين وتقترح المحتوى الذي يتوافق مع اهتماماتهم السابقة، وبالتالي‫، توجه اختياراتنا وفقًا لأنماط استهلاكنا السابقة. هذه الظاهرة تخلق "فقاعات ثقافية" عازلة، تجعلنا محاصرين في دوائر محدودة من الاهتمامات، فتختفي الأصوات الأقل شهرة أو الأقل تمويلًا، ويصبح التعدد اللغوي والثقافي في خطر التقوقع أو الانقراض.اختفاء اللغات والثقافات غير السائدة‬في الفضاء الرقمي، تهيمن اللغات العالمية الكبرى مثل الإنكليزية، ما يقلل من فرص انتشار المحتوى الثقافي بلغات أخرى. في غياب استراتيجيات لدعم التعدد اللغوي، قد يؤدي هذا إلى انقراض رقمي لبعض اللغات والثقافات. فحسب موقع ستاتيستا (شباط/ فبراير 2025) فإن المحتوى العالمي على شبكة الإنترنت باللغة الإنكليزية يشكل 49.4 بالمئة، قبل الإسبانية (6%) والألمانية (5.6%) ثم اليابانية (5%). أما اللغة العربية، فتأتي في المرتبة الـ 22 بنسبة (0.5%)، مع أن هذه الأخيرة تشكل ثامن لغة أكثر تحدثًا في العالم بنسبة 3.3% (ستاتيستيكس إن دايتا، 2025).ما يثير القلق إذن أن هناك تفاوتًا صريحًا ما بين الواقع المعيشي والبيئة الرقمية من ناحية الممارسات، وبأن اللغات الأقل انتشارًا ستواجه خطر الاختفاء الرقمي، حيث تُهملها الخوارزميات لصالح اللغات المسيطرة عالميًا. وهكذا، نجد أنفسنا أمام تساؤل جوهري: هل يمكن أن تكون البيئة الرقمية أداة لتعزيز التعدد الثقافي، أم أنها ستصبح وسيلة لطمسه وتنميطه؟‬‬الإبداع البشري في مواجهة الذكاء الاصطناعي‬حين بدأ الذكاء الاصطناعي بمحاكاة الأعمال الفنية، كان يُنظر إليه على أنه أداة تدعم الفنانين وتساعدهم على تحقيق رؤى جديدة. اليوم، أصبح الذكاء الاصطناعي قادرًا على تأليف الموسيقى، وكتابة النصوص، وإنشاء اللوحات الفنية وحتى إنتاج الأفلام القصيرة. ولكن مع تطور هذه الأنظمة، بدأ السؤال يأخذ منحى أكثر تعقيدًا: هل يبقى الفن فنًا حين تنتجه الآلات؟ وهل سيصبح الفنان والمبدع مجرد مراقب بينما تُنجز الآلات العمل؟ أم أن الذكاء الاصطناعي سيظل أداة مساعدة تعزز من إبداع الإنسان بدلاً من أن تحل محله؟‬هناك فرق جوهري بين الإبداع الإنساني والإنتاج الخوارزمي. فالإبداع البشري مرتبط بالتجربة الذاتية، بالمشاعر، بالتاريخ الشخصي والجمعي، وبالمعاناة والأمل والتساؤلات الوجودية. بينما يعتمد الذكاء الاصطناعي على تحليل الأنماط وإعادة إنتاجها، دون أن يختبر لحظة إلهام، أو يعاني شكوك المبدع، أو يعيش تجربة عاطفية تترك أثرًا في عمله. هذا لا يعني أن الذكاء الاصطناعي يجب أن يُقصى من المشهد الثقافي، بل يجب أن يكون أداة في يد الفنان، وليس بديلًا له. وهنا يأتي دور السياسات الثقافية التي يجب أن تضمن عدم تحول التكنولوجيا إلى منافس غير عادل للمبدعين، وأن تحافظ على حقوقهم في مواجهة عصر تتحكم فيه الآلات بالإنتاج الثقافي.‬‬كيف نحمي التنوع الثقافي في العالم الرقمي؟‬من خلال عملنا في مجموعة التفكير، توصلنا إلى تصورات عملية يمكن أن تجعل البيئة الرقمية أكثر عدالة وتنوعًا، بدلاً من أن تتحول إلى فضاء مهيمَن عليه من قبل خوارزميات لا تعترف إلا بالأكثر مشاهدة وربحًا.إحدى أهم التوصيات كانت ضرورة "إضافة بروتوكول جديد إلى اتفاقية "يونسكو" لعام 2005‬ حول حماية وتعزيز تنوع أشكال التعبير الثقافي" ‫(توصية 1)، بحيث يُلزم المنصات الرقمية باحترام التعدد اللغوي والثقافي، ويمنح الدول الأدوات اللازمة لحماية التنوع الثقافي في فضاء يتحكم فيه عدد قليل من الشركات التكنولوجية العملاقة. كذلك أوصينا بإنشاء "منصة دولية لمتابعة تطور التنوع الثقافي‬" ‫(توصية 2)‬ تسهم في تعزيز عملية جمع البيانات وتحليلها بخصوص مدى ظهور المحتوى الثقافي الوطني والمحلي على المنصات الرقمية، اللغات المستخدمة في المحتوى الرقمي، ومدى تفاعل الجمهور معها لاستخلاص التحديات والفرص وهل‫ الخوارزميات تروج فعلًا للتنوع، أم أنها تقترح محتوى موحّدًا؟لكن المشكلة ليست فقط قانونية أو تقنية، بل هي أيضًا مسألة وعي مجتمعي. لهذا السبب، ركزنا على ضرورة "إدراج الثقافة الرقمية في المناهج الدراسية، خصوصًا الفنية" (توصية 6)، بحيث يصبح الأفراد أكثر قدرة على فهم وانتقاد كيفية عمل الخوارزميات، وألا يكونوا مجرد مستهلكين سلبيين، بل مشاركين فاعلين في تشكيل الثقافة الرقمية. كذلك ناقشنا أهمية دعم الفنانين والمبدعين في مواجهة هذا التحول، عبر تقديم "برامج تدريبية في التقنيات الرقمية" (توصية 8)، وحماية حقوق الملكية الفكرية في عصر الذكاء الاصطناعي، وضمان أن يكون للإبداع البشري مساحة آمنة في عالم يتسارع نحو الأتمتة. من جهة أخرى، أوصينا بتشجيع "‬إنشاء كراسي يونسكو متخصصة في الثقافة الرقمية" ‫(توصية 9)‬ لضمان استمرارية البحث العلمي في هذا المجال وتطوير دراسات متعمقة في تأثير الذكاء الاصطناعي بالفنون والثقافة.‬‬‬حتى لا تتحوّل التكنولوجيا إلى منافس غير عادل للمبدعينالتوصيتان الـ5 والـ7 تنصان على "دعم جهود المناصرة لتعزيز التنوع الثقافي في البيئة الرقمية" لمواجهة سيطرة الشركات التكنولوجية الكبرى، وذلك عبر تعزيز دور المجتمع المدني والفاعلين الثقافيين في التأثير والمساهمة في صياغة سياسات الحوكمة الرقمية، كذلك الأمر بالنسبة إلى "وضع خطط وطنية لتعزيز المهارات الرقمية للقطاع الثقافي"، حيث أوصينا بضرورة: تدريب الفنانين على آليات النشر والتوزيع الرقمي، وتقديم دورات حول حماية الملكية الفكرية في ظل الذكاء الاصطناعي، وكذا تطوير برامج دعم للفنانين في الدول النامية لتمكينهم من الاستفادة من التحول الرقمي.وفي النهاية، لا يمكن لأي استراتيجية أن تنجح دون تعاون عالمي، ولهذا طالبنا بـ"‬إنشاء منتدى دولي دائم للحوار حول الثقافة الرقمية"‫ (توصية 4) ‬يهدف إلى مناقشة تحديات التكنولوجيا وتأثيرها في الثقافة، والتوصل إلى اتفاقات دولية تضمن حماية التنوع الثقافي، علاوة على إنشاء "‫شبكة عالمية للخبراء في الثقافة الرقمية"‬ ‫(توصية 10) تسمح بتقديم‬ الدعم للدول عند تصميم السياسات الثقافية الرقمية وبتبادل المعرفة والخبرات بين الباحثين والفنانين وصناع القرار لتطوير‫ حلول تتناسب مع التحديات المحلية لكل مجتمع.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬مستقبل الثقافة إلى أين؟‬السؤال الحقيقي اليوم، ليس ما إذا كانت الخوارزميات والذكاء الاصطناعي سيؤثران في الثقافة - لأنهما يفعلان ذلك بالفعل - بل كيف يمكننا أن نجعل هذا التأثير إيجابيًا؟ كيف يمكن أن تظل التكنولوجيا وسيلة لتعزيز الإبداع البشري، وليس لاستبداله؟ كيف نحافظ على التنوع الثقافي في فضاء رقمي يُدفع فيه الجميع نحو استهلاك الأنواع نفسها من المحتوى؟‬الإجابة قطعًا ليست في رفض التكنولوجيا، ولكن في تنظيمها، وفهمها، واستخدامها بوعي ومسؤولية. والتحدي الأكبر الذي يواجهنا اليوم ليس تقنيًا فقط، بل حضاري وإنساني: هل نريد أن نعيش في عالم رقمي يعكس تنوعنا الحقيقي، أم في عالم تصنعه لنا الخوارزميات وفقًا لمعادلات الاحتمالات الجافة؟التكنولوجيا ليست عدوًّا للثقافة، بل قد تكون أعظم حليف لها إن أُحسن استخدامها. ولكن إذا تُرك الأمر للمنصات الرقمية وحدها والشركات العملاقة، فإننا قد نشهد تراجعًا خطيرًا في التنوع الثقافي، حيث تفرض الخوارزميات نموذجًا واحدًا لما هو "ناجح" أو "مناسب".التوصيات التي قدمناها في مجموعة التفكير ليست مجرد مقترحات نظرية، بل هي خطوات عملية يمكن أن تشكل خريطة طريق لمستقبل رقمي أكثر تنوعًا وعدالة. توفر هذه التوصيات خريطة طريق شاملة لضمان استدامة التنوع الثقافي في البيئة الرقمية، من خلال مزيج متوازن بين الابتكار، والحماية القانونية، ودعم الفاعلين الثقافيين لضمان مستقبل رقمي أكثر عدالة وشمولًا وأكثر استدامة للمشهد الثقافي في ظل التحول المتسارع.هنا تتجلى مسؤولية منظمة "يونسكو" التي أوصينا‬ بـ"‬تعزيز دورها في قضايا الذكاء الاصطناعي والبيئة الرقمية في مجال الثقافة"‫ (توصية 11)، وذلك ‬عبر تحسين التنسيق الداخلي بين أقسامها المختلفة (الثقافة بمختلف اتفاقاتها، التربية والعلوم) والمشاركة الفعالة في النقاشات العالمية لضمان أن تبقى الثقافة في صلب السياسات الرقمية المستقبلية.السؤال المطروح الآن: هل سنكون قادرين على تحقيق هذا التوازن؟ أم أننا سنترك أسياد التكنولوجيا يقررون مصير ثقافاتنا وهوياتنا؟ الجواب متروك لنا جميعًا، أفرادًا، وفنانين، ومنظمات مدنية ودولية، وصناع قرارات سياسية.* مؤلف موسيقي جزائري، قائد أوركسترا وخبير ثقافي دولي لدى يونسكو