المجال القاتل

Wait 5 sec.

 وجدي كاملتساعد وسائل التواصل الاجتماعي، ومنذ سنوات، في إثبات حقيقة أن المجال العام السوداني، وعلى وجه الدقة، مجال قاتل لا محالة. فهو فسحة مجانية لكل من أراد التنمر أو تشويه سمعة الآخرين لأسباب تخصه أولًا قبل أن تهم الآخرين. وتُعد منصات مثل تويتر وفيسبوك أكثر اشتعالًا من غيرها بهذه الممارسات، حيث تتواتر فيها مظاهر العداء بين المشاركين.وتلعب ما تُعرف بـ “ديمقراطية النشر” الدور الأهم في جعل هذا الأمر ملحوظًا وظاهرة لا تخطئها العين. فالضحايا في هذا المجال هم أصحاب المبادرات أولًا، أو الأشخاص الذين يتسمون بالجرأة والشجاعة في إبداء آرائهم وإعلان مواقفهم من القضايا المختلفة، ولا سيما القضايا السياسية. هذه الفئة هي محور اهتمام هذا المقال، وليست الشرائح الأخرى التي يدفعها الشغف لحب الظهور أو السعي وراء الاختلاف لأجل الاختلاف. فهؤلاء، الذين لا يستحقون الالتفات إليهم، نجدهم – للأسف – يحظون بكل الاهتمام، بل وربما التشجيع على الاستمرار في ممارساتهم.أما من يبادر ويجرؤ على إعلان موقف سياسي أو فكري أو وجودي، فإنه سرعان ما يتعرض لحملة هجوم شرسة، تُستخدم فيها جميع الوسائل الممكنة للحط من قيمته والتقليل من شأنه. لا أحد يسعى إلى فتح المجال للحوار أو النقاش المفيد مع هذا الشخص، بل عليه أن يكون مستعدًا لتلقي سيلٍ من الإساءات والتجريح، مستخدمًا أشنع ما يتوفر في قاموس البذاءة، الذي يبدو أنه قد أُعد سلفًا لهذا الغرض.لماذا يحدث كل ذلك؟. من الصحيح، كما ذكرنا آنفًا، أن من خصائص وسائل التواصل الاجتماعي أنها تمنح الجميع فرصة التعبير عما يختلج في صدورهم ويعتمل في عقولهم. ولكن هذه الحرية تُمارَس أحيانًا دون ضوابط، مما يؤدي إلى إلحاق أضرار جسيمة بالمجال العام. فنحن، في هذا الفضاء، نتعرض للكثير من المضايقات، مثل المحتوى الفاضح، والاستعراض المفرط للصور الشخصية، والأخطاء النحوية والإملائية. ومع ذلك، فإن أكثر أشكال الأذى ضررًا هو العبارات الجارحة والخادشة، سواء كانت مكتوبة أو منطوقة أو مصورة.نسبة كبيرة من الناس، وخاصة بعد الحرب، بدأت وكأنها اختارت التنمر مهنة لها، فتجدهم وكأنهم يشحذون أقلامهم وسكاكينهم، جالسين في انتظار “المارّة الإسفيريين” لينقضّوا عليهم بعباراتهم السامة. ولا يقتصر الأمر على إطلاق رصاص البذاءة، بل يتعداه إلى التخوين والإهانة والتقليل من شأن الآخرين، حتى يصل إلى مستوى الإسقاط التام لمسيرة الأفراد ومسحهم بالأرض. هذا هو حال معظم التعليقات على المواقف المتعارضة، سواء عبر البث المباشر (Live) أو التسجيلات الصوتية.إن الردود الفورية في هذه المساحات لا تنم عن رغبة في الحوار المثمر وتحسين الأفكار، بل تهدف بشكل مباشر إلى الهجوم على أصحاب الآراء المختلفة.التنمر والتنوع الفكري: ساعدت الحرب، بلا شك، في رفع درجة التوتر والتسبب في انفلات الأعصاب لدى الغالبية، نتيجة لما يرافقها من أحداث يومية قاسية. ولكن التنمر، سواء في اللغة أو السلوك، لا يستهدف فقط القضاء على المختلفين فكريًا، بل يسعى إلى إلغاء التنوع في الآراء والانحيازات. بينما يفترض أن يكون **الاختلاف حافزًا للحوار والتفاعل البناء، إلا أن ما يحدث في الواقع هو العكس، حيث يتم إقصاء كل رأي مخالف وشيطنته.يؤمن أغلب المشاركين في هذا الفضاء بامتلاكهم المطلق للحقيقة، ويرفضون الاعتراف بأن هناك جوانب أخرى لها قد تكون لدى الآخرين. هذا التصور يؤدي إلى تصاعد الكراهية، التي لا تتوقف عند التعبير عنها لفظيًا، بل تتطور إلى أشكال أكثر عدوانية، قد تصل في بعض الأحيان إلى العنف الفعلي. وهنا، تتضح العلاقة الوثيقة بين التطرف الفكري والعنف المادي، حيث تنتهج بعض الجماعات المتطرفة هذه الأساليب ليس فقط للوصول إلى السلطة، بل للحفاظ عليها عبر القضاء على المخالفين، حتى لو تطلب الأمر إشعال الحروب وتدمير المكتسبات الوطنية.وهذا بالضبط ما جرى – وما يزال يجري – في واقعنا اليوم، نتيجة لهيمنة هذه الثقافات والإيديولوجيات العدوانية.إن استمرار الحرب كهدف في حد ذاته، وكحالة مرضية مزمنة من قبل أطرافها المؤججة لنيرانها، يجعل إيجاد حلول لقضية أنسنة المجال العام معضلة متنامية. فاقتراحات مثل بناء أدب الحوار، وعقلانية النقاش، ونشر ثقافة التصالح واحترام الرأي الآخر عبر المناهج التعليمية والأساليب التربوية، وتوسيع فرص إقامة الورش، تصبح أهدافًا بعيدة المنال في ظل الظروف الراهنة.وكان من الممكن الإشارة إلى خلو منصات التواصل من التحذيرات والعقوبات، ولكن رغم توفر ذلك في متن سياساتها المعلنة، فإن حجم الضرر الذي يلحق بالمشتركين جراء التنمر والقذف الإلكتروني يتصاعد يومًا بعد يوم، خاصة مع استمرار الحرب. وإذا كان من المهم تعميق مكافحة الحسابات الوهمية، فسنجد أن نسبة ضخمة من تلك الحسابات تعود إلى المكاتب الإعلامية لمؤسسات الأمن والمخابرات، التي تنشط في جعل الحرب واقعًا معاشًا.وإذا كان يُنصح بتفعيل القوانين الرادعة للسب والقذف والإساءة الإلكترونية عبر إنشاء وحدات لمتابعة جرائم الإنترنت، فإن تلك الخطوة ستواجه صعوبات كبيرة بسبب تخلف البنية التقنية داخل مؤسسات العدالة السودانية، ناهيك عن اختفائها حاليًا. لقد كان من الممكن المناشدة بدعم وتعزيز التنوير بالحقوق لدى جمهور المستخدمين الإلكترونيين، ولكن واقع الحرب جعل الجميع في مواجهة الجميع، مما فاقم أزمة الحقوق، وانتقل بها من مرحلة “أخذ الحق باليد” إلى “أخذ الحق بالسلاح”، ونشر ثقافة أشد فتكًا، هي ثقافة الانتقام والتأديب باستخدام أدوات السلطة.عليه، وبناءً على ما سبق، فإن العلاجات والنصائح التي تُطرح لمثل هذه المشكلات، على أنها حلول ناجعة، ستجد نفسها عاجزة عن التطبيق بسبب غلبة ثقافة العنف والإقصاء، وتأثيرها في تعطيل أي إجراءات مضادة لها. وأكبر دليل على ذلك، أن اقتراح إنشاء مواثيق شرف لمنع انتشار الأخبار والمعلومات الكاذبة، يواجه بالمزيد من تأجيج الصراعات، في ظل الحرب المستعرة التي قلبت كل الموازين وأعدمت فرص حياة الناس في مدنهم وقراهم. وهذا ما أدى إلى غياب الدور المتوقع للمنظمات الحقوقية ومنظمات المجتمع المدني، بسبب افتقار المجتمع للاستقرار.يبقى القول إن هناك أعدادًا ضخمة من المتضررين من القذف والتنمر الإلكتروني، لا يجدون أي حماية قانونية فعالة، في ظل حقيقة أشد فظاعة وإيلامًا، وهي أن القنص، والقذف، والقتل المادي والإلكتروني، يعبران عن سياسات إعلامية لما تبقى من الدولة، وتجد كل التشجيع من قياداتها الضالعة في ممارسة هذا التوحش.إنه توحش يجعل العدو الافتراضي “الدعم السريع”، بينما تثبت الوقائع المؤلمة أن العدو الفعلي هو فوضى التوحش نفسها، التي تستهدف المواطن بنسف وعيه بحقوقه وواجباته، مما يجعل عنف اللغة والخطاب ينطلق أولًا من أفواه أولي الأمر والرعاة أنفسهم.هكذا، يظل – وسوف يظل – المجال العام مجالًا قاتلًا للأفراد والجماعات ذات العلاقة بالأفكار النقدية الحرة، طالما غاب العقل، وانتفت الحكمة، مما يضعف ليس فقط فرص إيقاف الحرب، بل أيضًا بناء مجتمع معافى، أكثر استقرارًا، وحدة، وتماسكًا، طالما أن الحرب، وكما وصفها الجنرال والمفكر العسكري والفيلسوف الألماني كارل فون كلاوزفيتز، هي:“استمرار للسياسة بوسائل أخرى.”War is the continuation of politics by other means.The post المجال القاتل appeared first on صحيفة مداميك.