دعوات ترحيل الغزيين: عهد أميركي جديد في تجاوز القانون الدولي

Wait 5 sec.

أثارت تصريحات الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب الجدل، خصوصًا تلك التي أطلقها خلال أحد اللقاءات الصحافية في نهاية يناير/كانون الثاني، بشأن ترحيل سكان قطاع غزّة، حين قال إنّه متأكدٌ من أنّ مصر والأردن سوف يستقبلان عددًا من الغزيين، كما تابع مضيفًا وموضحًا أنّ عملية إعادة إعمار قطاع غزّة مستحيلةٌ في ظلّ وجود هذا العدد الكبير من السكان في المناطق المدمرة، إذ قُوبلت هذه التصريحات بموجةٍ واسعةٍ من الغضب والانتقادات على المستويين العربي والدولي.في العالم العربي، رفضت كلٌّ من مصر والأردن الفكرة بشدّةٍ، كما ساندتهما كلّ أو معظم الدول العربية، إذ أكدت الحكومة المصرية أنّ المصريين سيرفضون بشدّة أيّ محاولةٍ لتهجير الفلسطينيين من أراضيهم إلى مصر، مشيرةً إلى أنّ المصريين سينزلون إلى الشوارع للتعبير عن استنكارهم، كما رفض الأردن هذا المقترح تمامًا. وعلى صعيدٍ دوليٍ متصلٍ، اعتبرت فرنسا تهجير سكان قطاع غزّة قسريًا انتهاكًا خطيرًا للقانون الدولي، وسيمثل هجومًا على تطلعات الفلسطينيين المشروعة، وسيزعزع استقرار المنطقة. كما ندد الاتّحاد الأوروبي بالخطة، وعبر على أنّه ضدّ فكرة الترحيل، كون قطاع غزّة جزءًا من حلّ الدولتين، الذي يتبناه الاتّحاد. كذلك استنكرت تركيا المقترح واصفةً إيّاه بـ"غير المقبول".أما في إطار البحث عن حقيقة الموقف القانوني من دعوات التهجير، فنجد أنّ دعوات ترامب تخالف القانون الدولي، وقواعده المنظّمة للحقوق والحريات الخاصة بالأفراد والشعوب ابتداءً، وفي التفصيل تحمل هذه الدعوات تحريضًا ودعمًا على ارتكاب جرائم الحرب، والجرائم ضدّ الإنسانية.الترحيل جريمة حربتحظر اتّفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، في مادتها (49)، حظرًا قاطعًا، النقل الجبري الجماعي أو الفردي للأشخاص المحميين، أو نفيهم من الأراضي المحتلة إلى أراضي دولة الاحتلال، أو إلى أراضي أيّ دولةٍ أخرى، محتلةً كانت أو غير محتلةٍ، أيًّا كانت دواعي النقل. كما أعادت الاتّفاقيات تأكيد، مرةً أخرى، هذا الحظر في خضم نصوص الفقرة الرابعة من المادة (85) من البروتوكول الأول الإضافي لاتّفاقيات جنيف الصادر عام 1977، إذ وصفت أيّ فعلٍ تقوم به دولة الاحتلال، ويؤدي إلى نقل بعض سكانها المدنيين (سكان الدولة المحتلة) إلى الأراضي التي تحتلها، أو ترحيلهم، أو نقل كلّ أو بعض سكان الأراضي المحتلة إلى داخل نطاق تلك الأراضي أو خارجها بالانتهاكات الجسيمة التي تخالف المادة (49) من الاتّفاقية الرابعة. وبالتالي، يمكننا فهم واستنتاج أنّ دعوات نقل السكان، التي دعا إليها ترامب، أو من قبلهِ رئيس وزراء حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزراء حكومته اليمينية الحالية تمثّل مخالفةً جسيمةً لأحكام اتّفاقية جنيف الرابعة، المنظّمة لطبيعة النزاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة.تضرب دعوات ترامب لتهجير السكان الفلسطينيين من قطاع غزّة بعرض الحائط ميثاق الأمم المتّحدة، الذي أكد صراحةً على حقّ الشعوب في تقرير مصيره، ومنها طبعًا الشعب الفلسطينيكما تجدر الإشارة إلى أن نظام روما الأساسي، الناظم لعمل المحكمة الجنائية الدولية، يصنف التهجير القسري جريمة حربٍ تستوجب المحاكمة عليها في إطار مادته (8). يُقرأ تجريم نقل السكان القسري على أنّه انتهاكٌ جسيمٌ يستوجب المحاكمة، إلى جانب أنّ المحكمة الجنائية الدولية تمتلك الولاية القضائية على هذه الجرائم على اعتبارها تحدث في النطاق الجغرافي الذي تمارس المحكمة اختصاصها فيه.الترحيل.. تطهيرًا عرقيًاكذلك؛ يمكن قراءة دعوة ترامب المطالبة بنقل جزءٍ من سكان قطاع غزّة من أراضيهم في إطار التطهير العرقي، إذ يُعرف التطهير العرقي بأنّه سياسةٌ تهدف إلى استبعادٍ منهجيٍ ومقصودٍ لإحدى الجماعات العرقية من المناطق الجغرافية الخاصّة بها، وذلك بأساليب عنيفةٍ". بناء عليه يمكن تصنيف هذه الدعوات جريمةً ضدّ الإنسانية، على اعتبارها تطهيرًا عرقيًا، على الأقلّ في أجزاءٍ من القطاع المحاصر، في إطار دعوات الرئيس الأميركي المطالبة بنقل عددٍ من سكان قطاع غزّة، وخصوصًا المناطق الأكثر تدميرًا إلى مصر والأردن، أو إلى مناطق أخرى. إذ سبق للمحاكم الجنائية الدولية التعامل سابقًا مع مثل هذه الجريمة، إلى جانب أن القرار رقم (819) لعام 1993، الصادر عن مجلس الأمن، قد قدم الأساس القانوني لهذه الجريمة، واعتبرها انتهاكًا جسيمًا للقانون الدولي الإنساني باعتبارها جريمةً دوليةً.دعمٌ لا منتاهٍ للإبادة الجماعيةتحمل دعوات ترامب لبعض الدول من أجل استقبال عددٍ من سكان قطاع غزّة دعمًا علنيًا لجريمة الإبادة الجماعية المرتكبة في قطاع غزّة، إذ لم تقف الولايات المتّحدة عند حدّ تمويل حرب/ عدوان الإبادة الجماعية، التي تشنها إسرائيل على قطاع غزّة وسكانه، بل تعمل على مشاركتهم في استكمال الجرائم المرتبكة ضدّ المدنيين في قطاع غزّة، فقد التقى سلوك ترامب مع ما بدأ به مجرمو الحرب الإسرائيليون، المرتكبين لحرب الإبادة الجماعية، فإن سعى مجرمو الحرب الإسرائيليون إلى تدمير الفلسطينيين ومقدراتهم على الحياة، فإن دعوات الترحيل المنظم والترهيب تمثّل تطهيرًا عرقيًا داعماً لما تقوم به إسرائيل.التعدي على منظومة الأمم المتّحدةتضرب دعوات ترامب لتهجير السكان الفلسطينيين من قطاع غزّة بعرض الحائط ميثاق الأمم المتّحدة، الذي أكد صراحةً على حقّ الشعوب في تقرير مصيره، ومنها طبعًا الشعب الفلسطيني، فقد أشارت الفقرة الثانية من المادة الأولى من ميثاق الأمم المتّحدة على "إنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها". بل تجاوزت دعوة ترامب لقرارات كيانات الأمم المتّحدة المتعددة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، قرار مجلس الأمن رقم (242) الصادر عام 1967، الذي يؤكد على حظر الاستيلاء على الأراضي بالقوّة، إلى جانب القرار (836) الصادر عام 1993. ولم تكن هذه المرة الأولى التي تضر فيها الولايات المتّحدة بالشعب الفلسطيني، في خضم اصطفافها الدائم إلى جانب سلطات الاحتلال الإسرائيلي، فقد سبق لها أن عطلت قراراتٍ عديدةٍ داخل مجلس الأمن، من أجل وقف حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزّة، التي امتدت لأكثر من 15 شهرًا، والتي فقد فيها الفلسطينيين عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى (أكثر من 100 ألف شهيدٍ وجريحٍ).الاعتداء على حقوق السكان الأصليينلم يقف الترحيل على اعتباره انتهاكًا لحقّ الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، أو في الاعتداء على قرارات الشرعية الدولية، بل يتجاوز كذلك العديد من الحقوق الخاصّة بالشعب الفلسطيني، ومنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي يكفل في مادته (13) حقّ كل فرد في التنقل واختيار محل إقامته داخل حدود دولته، إلى جانب، العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية في مادته (1)، التي تؤكد على حقّ الشعوب في تقرير مصيرها والتصرف الحر في ثرواتها ومواردها الطبيعية.دعوات الترحيل الاستعماريةلم تنفك الولايات المتّحدة عن افتعال الحروب التوسعية، تحت ذريعة حقوق الإنسان، ومكافحة الإرهاب، كما في فيتنام، وأفغانستان، والعراق سابقاً، وهو ما اتضح كذب ادعاءاتهم وذرائعهم في تلك الحروب لاحقًا. إنّ الحالة الجديدة القائمة في دعوات ترحيل سكان قطاع غزّة ما هي إلّا نمطٌ متجددٌ للسياسات الاستعمارية التوسعية، ولكن الحجة المعلنة، هي المشاريع الاقتصادية، فقد أشار ترامب في مقابلاته الصحافية إلى تولي الولايات المتّحدة السيطرة على قطاع غزّة، وتحدث أيضًا عن تحويل غزّة إلى "ريفييرا الشرق الأوسط، حيث تنتشر المنتجعات السياحية على الشاطئ، والمطاعم والأبنية الجديدة، في ما يشبه الحلم، أو المشهد الشبيه بالريفييرا الفرنسية والإيطالية. وفي إجابته عمن سيعيش هناك، قال ترامب ستصبح غزّة موطنًا "لشعوب العالم"، يعتبر هذا الخطاب تمهيدًا علنيًا لمشروعٍ استعماريٍ حديث يتشكل في قطاع غزّة، من خلال الترحيل القسري لسكانه.ختامًا، يمكننا القول إنّه على الرغم من الدعوات الأميركية نجد أنّ حقّ الفلسطينيين في أرضهم هو حقٌّ طبيعيٌ محميٌ بالشرائع الدولية كافّة، وقد أُكد على طبيعة الأراضي الفلسطينية بأنّها أراضٍ محتلةٍ، وأيضًا على أنّ حقّ الفلسطينيين بالعودة للأراضي المحتلة هو حقٌ أصيلٌ ومحميٌ بالقرارات الدولية، ويقع على عاتق الجميع الرفض رفضًا قاطعًا لأيّ ترتيباتٍ، أو محاولاتٍ لتغيير واقع القضية الفلسطينية الجغرافي والسياسي، إذ إن تهجير الفلسطينيين لا يقتصر على تهديد الفلسطينيين وحدهم، بل يمثّل خطرًا جسيمًا على الأمن والاستقرار الإقليمي، والإيغال في هذه المخالفات يعرض مرتكبيها والمساهمين فيها إلى التعرض للمساءلة القانونية، والمثول المستقبلي أمام القضاء الدولي عن هذه الجرائم المشار إليها أعلاه.