منحت حكومة إسرائيل الأولى، في عام 1948، الهويات للمواطنين العرب الفلسطينيين الذين بقوا في حدود أراضيها ولم يغادروها، منهم من بقي في بلدته، ومنهم من نزح من قرىً لم تكتف إسرائيل باحتلالها وطرد سكانها فقط، بل هدمتها ومنعت عودتهم لها. بمعنى آخر، تكوّن الحضور الفلسطيني في إسرائيل منذ 1948 من مكونين رئيسيين: الأول؛ المواطنون الباقون في بلداتهم، والثاني النازحون من القرى المهجرة، الذين أصبحوا يعرفون في القاموس الفلسطيني بـ "مهجري الداخل".وضعت حكومات إسرائيل المتعاقبة خططًا للتعامل مع الباقين من الفلسطينيين رغمًا عنها، إذ إنّ الفكرة الرئيسة التي وجّهَت القيادتين السياسية والعسكرية الصهيوإسرائيلية تمثّلت في طردٍ شاملٍ لكلّ الفلسطينيين، تمهيدًا لإقامة دولةٍ يهوديةٍ صرفةٍ في فلسطين، إلّا أنّ هذه الفكرة لم تُنفّذ بحذافيرها، فبقي هؤلاء شوكةً في حلق إسرائيل.إذًا؛ وضعت حكومات إسرائيل المتعاقبة، منذ 1948، خططًا، وطرحت مشاريع لكيفية التعامل مع الفلسطينيين فيها، وبطبيعة الحال فإنّ هذه الخطط، في معظمها على الأقلّ إنْ لم يكن جميعها، لم تسعَ إلى بناء المجتمع الفلسطيني وتطويره في إسرائيل، أسوةً بالمجتمع اليهودي فيها، بل كانت مبنيةً، أي الخطط، على فكرة التخلُّص من هذا الإرث الذي خلّفته حرب الـ 48؛ أو كما تُعرَف بـ "النكبة"، وسبل أو كيفية التخلص منه.كان على الحكومات المتعاقبة، ومؤخرًا حكومة بنيامين نتنياهو، بناء خطةٍ غير معلنةٍ صراحةً، مفادها مزيدٌ من تضييق الخناق على حياة الفلسطينيين في الداخل، لذا فمن أبرز ما قامت به هذه الحكومة كان/ وما زال السعي إلى ما يمكننا تعريفه بـ"التهجير الصامت"، إذ لا يجوز لإسرائيل التصريح علانيةً بسعيها إلى تهجير الفلسطينيين منها، لهذا تلجأ هذه الحكومات لوضع خطةٍ شاملةٍ مبنيةٍ على أسسٍ عدّة، تهدف في نهاية المطاف إلى تفتيت المجتمع الفلسطيني فيها، وخلق واقعٍ جديدٍ.رفض الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة توسيع مسطّحات البناء الجديدة، وخنق الحيز الحياتي والمعيشي دائمًا، يدفع الشباب في الأساس إلى الهجرة إلى خارج بلداتهممن أجل توضيح هذه الفكرة سنأتي على بعض نماذج الخطط الإسرائيلية تلك، ومن بينها، بل في مقدمتها؛ السعي إلى إقصاء الهوية الفلسطينية والعربية، أيّ الهوية الوطنية- القومية، بناء عليه، نرى أنّ مسألة بناء هوية فلسطينية جديدة لم تُؤتِ أُكلها، والقصد هنا تعريفهم بكونهم "عرب إسرائيل"، فكان واضحًا منذ طُرح هذا التعريف الهوياتي أنّ الكل الفلسطيني يرفضه، لذا واجهوه من خلال تعزيز الهُوية الفلسطينية، على اعتبارهم شعبًا وهَويةً مدنيةً في إطار الدولة ذاتها التي فرضت على الفلسطينيين الباقين في أرضهم، والتي أصبحت تُسمّى إسرائيل وفقًا للعُرف الدولي.لكن ومن جهةٍ أخرى، سعت إسرائيل، ولا تزال، إلى دمج الفلسطينيين في حياة الدولة، من خلال ضخ حفنة من المال/ الميزانيات لصالح القرى والبلدات الفلسطينية، من أجل تحسين القطاعات الصناعية والتجارية والإنتاجية، إلّا أنّ قلّة هذه الميزانيات لم يأتِ بثمارٍ مرجوةٍ، فكان بالتوازي مع بث دعايةٍ إعلاميةٍ مشيطنةٍ ومحتقرةٍ للعربي بالعموم، والفلسطيني بالخصوص، معتبرةً أن مقابل ما يعيشه ويناله العربي في إسرائيل من ميزاتٍ في انتهاج مجرى حياةٍ ديموقراطيةٍ وليبراليةٍ، وحرية بناء مسيرته، فإن الوضع العربي العام متأزمٌ ومتخلفٌ، وسياسات بعض الأنظمة العربية رجعيةٌ وقمعيةٌ. يبنى هذا التوجّه، بحسب خطط حكومات إسرائيل، على رؤيةٍ بعيدة المدى، مفادها أنّ الفلسطيني في إسرائيل بعد مقارنة وضعه مع أوضاع أبناء شعبه في الدول المجاورة، وخصوصًا أنّ كثيرين منهم قد زاروا الأردن ومصر وغيرهما من الدول العربية، سيفضل إسرائيل وسيسعى إلى الاندماج في حياة الدولة، وستخلق عنده حالةً من الارتياح النفسي.من جهةٍ أخرى، تقدم الدعاية الإسرائيلية الفلسطيني في الضفّة الغربية وقطاع غزّة على اعتباره مصدر تهديدٍ لوجود فلسطينيي الداخل وحياتهم داخل إسرائيل، كما سيؤثر، بطريقةٍ أو أخرى، على وضع فلسطينيي الداخل الاقتصادي الجيد الذي يعيشونه في إسرائيل، مقارنةً بالوضع في تلك/ باقي المناطق الرازحة تحت الاحتلال الإسرائيلي.لكن، الدولة لديها خطةٌ، وهي الدمج الاقتصادي في الأساس بكل مكوناته، من أجل تحويل الفلسطيني إلى مستهلكٍ مرتبطٍ ارتباطًا كلّيًا بالاقتصاد الإسرائيلي، بدأ هذا الدمج منذ عقودٍ طويلةٍ، وأساسه خلق واقعٍ اقتصاديٍ جيدٍ للفلسطيني في الداخل، من خلال تركه العمل الزراعي في الأرض، بعد مصادرة مساحاتٍ شاسعةٍ من الدونمات، في الجليل والمثلث وغيرهما. بمعنى آخر، لم يعد لدى الفلسطيني ما يكفيه لسد احتياجاته الحياتية، وتوفير مستوى معيشي متقدّم إلّا بالانتقال إلى العمل ضمن الاقتصاد الإسرائيلي، الذي يوفر راتبًا ومدخولاً جيّدًا مع ضماناتٍ إضافيةٍ، مثل الطبابة والضمان الاجتماعي، وصناديق التوفير للتقاعد وغيرها.جعل الوضع هذا شرائح فلسطينية كثيرة تعزف عن الانخراط في العمل الحزبي والسياسي مع مرور الوقت، إلى درجة أنّ الأحزاب العربية، أو تلك التي كانت مشتركةً بين اليهود والعرب، تتعرّض إلى تراجعٍ كبيرٍ في الساحة العملية.لا يعني ذلك أنّ سياسات إسرائيل وخططها تتوقف عند تحقيق بعض المنجزات على مستوى الدمج فقط، بل تعمل ليلًا نهارًا على تحقيق الفكرة الرئيسية، ألّا وهي التخفيف من عدد الفلسطينيين فيها. إذ بلغ عددهم وفقًا لأرقام المكتب المركزي للإحصاء الاسرائيلي في العام 2024 قرابة مليوني نسمة، هذا يعني 21% من مجمل المواطنين في إسرائيل، هذه الأرقام والنسب تقضُّ مضجع الحكومة، التي تدرك أنّ القنبلة الديمغرافية ستنفجر يومًا ما. بمعنى، أنّ الاستمرار في الزيادة السكانية تلك، جرّاء ارتفاع الولادات لدى الفلسطينيين وانخفاضها الملحوظ لدى المجتمع اليهودي، يسبب خطرًا على المشروع الصهيوني كاملًا.بناء عليه، رأينا كيف أنّ الدمج يساهم في إبعاد الفلسطيني عن ممارسة الحياة السياسية، وبالتالي يصبح ولاؤه للدولة، سواء كان علنًا أو سرًّا، المهم هنا أن يعمل، ويعتاش، ويمارس حياةً اجتماعيةً واقتصاديةً مريحةً. لكن ومن ناحيةٍ أخرى، يمثّل استمرار زيادة تعداد فلسطينيي الداخل عقبةً أمام إسرائيل في المستقبل البعيد، لذا تُمارس إسرائيل سلسلةً من الخطوات التضييقية والقمعية لتحقيق فكرة "التهجير الصامت".ما القصد من هذا؟ القصد أنّ الاستمرار في تشريع قوانين تتعلق بمظهر وجوهر دولة إسرائيل، بكونها دولةً يهوديةً، فضلاً عن تعريف الدولة بكونها يهوديةً، وللشعب اليهودي حقّ تقرير المصير المستقبلي، وفقًا لقانون القومية عام 2018، الذي شرّعه الكنيست الإسرائيلي. إضافةً إلى قوانين أخرى تُعرِّف اليهودي بكونه صاحب الحقّ في العودة (قانون العودة إلى إسرائيل لليهود لروابطهم الدينية والتاريخية بـ "أرض اسرائيل"). مثل هذه القوانين تجعل من الفلسطينيين في إسرائيل مواطنين من الدرجة الثانية في الحقوق أولاً، وفي تعامل الدولة معهم ثانيًا.كان على الحكومات المتعاقبة، ومؤخرًا حكومة بنيامين نتنياهو، بناء خطةٍ غير معلنةٍ صراحةً، مفادها مزيدٌ من تضييق الخناق على حياة الفلسطينيين في الداخلمن بين الخطط الأخرى التي تستعملها إسرائيل ما يتعلق بالانتشار اليهودي في عددٍ من المناطق التي تتميز بحضورٍ عربيٍ فلسطينيٍ لافتٍ، فعلى سبيل المثال، وليس الحصر، في منطقة الجليل شمالي فلسطين ذات الأغلبية العربية الفلسطينية التي تتجاوز الـ 57%، ما يعني تفوقًا سكانيًا، كانت إحدى معالجات إسرائيل لهذا التفوق السكاني في سبعينيات القرن الماضي، بالعمل على تطبيق مشاريع لتهويد الجليل، وأطلقت عليه الحكومة اسم "تطوير الجليل" بغرض التمويه، وأساسها مصادرة المزيد من الأراضي الفلسطينية لصالح إقامة مجمعات استيطانية يهودية على الأراضي المصادرة، ثمّ وبعد فضح هذه الخطط وكشفها للجمهور الفلسطيني اندلع يوم الأرض في 1976، وأوقف المشروع ولو مؤقتًا.كما تجلت روح وفكرة مشروع التهويد، وتخفيف التجمّعات السكانية الفلسطينية في الجليل، وكذلك في النقب، من خلال عدم تخصيص مساحاتٍ من الأراضي لإقامة المساكن في البلدات العربية الفلسطينية في إسرائيل، ما يؤدي إلى دفع الفلسطينيين إلى بناء مساكنهم على أراضٍ زراعيةٍ من دون تراخيص، وهم بذلك في عُرف القانون الإسرائيلي مخالفون له، لذا عندها تلجأ الحكومة إلى إصدار أوامر بالإخلاء والهدم، ونتيجة هذه السياسة القمعية والتضييقية لجأ الأهالي لبناء بيوت أبنائهم ضمن الحيزات الفارغة لمنازلهم القائمة، ما أّدى، ولا يزال، إلى تحقيق المزيد من تضييق الخناق، واختفاء الحيز الحياتي العام، وزيادة الكثافة السكانية في مساحاتٍ قليلةٍ وضيقةٍ من الأرض. خلق هذا الوضع واقعًا اجتماعيًا صعبًا للغاية، إذ ازداد الضغط الاجتماعي والنفسي، وبالتالي ازداد العنف ازديادًا مطردًا داخل المجتمع العربي الفلسطيني في الداخل.استمرارًا لهذه الجزئية، فإنّ فقدان الأراضي نتيجة المصادرة، ورفض الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة توسيع مسطّحات البناء الجديدة، وخنق الحيز الحياتي والمعيشي دائمًا، يدفع الشباب في الأساس إلى الهجرة إلى خارج بلداتهم، والبحث عن وحدةٍ سكنيةٍ في المدينة القريبة، وغالبًا ما تكون ذات أغلبيةٍ يهوديةٍ، ويكون على استعداد لطلب قروض إسكانٍ مرتفعة الفوائد، ومنهم من يهاجر إلى خارج البلاد ولا يعود إليها أبدًا.خلق نموذجٌ آخر من خطط التضييق واقعًا حياتيًا ضاغطًا وصعبًا، كما يجري في النقب جنوبي فلسطين منذ عقودٍ من الزمن، ملخصه أنّ سياسات حكومات إسرائيل، بخصوص هذه المنطقة، متمحورةٌ حول السيطرة على الأراضي الفلسطينية، التي يمتلكها الفلسطينيون البدو، وتجميعهم في عددٍ محدودٍ من البلدات والمدن، أطلقوا عليها اسم "السياج". هنا يكفي الاسم "السياج" للدلالة على رغبة هذه الحكومات، ومنها الحكومة الحالية، في تجميع البدو فيها، وخنقهم والاستيلاء على أراضيهم، ومنعهم من ممارسة نهج حياتهم الخاص، الذي عاشوه منذ قرونٍ طويلةٍ من الزمن. لقد حققت الحكومة جزءًا من خططها باقتلاع عددٍ من المضارب البدوية، وتجميعها في مجمعاتٍ سكانيةٍ وسكنيةٍ ذات مساحةٍ محدودةٍ، ما خلق واقعًا ضاغطًا ومعقدًا في شبكة العلاقات الاجتماعية داخل هذه المجمعات، وبالتالي أدى إلى انتشار العنف والجريمة انتشارًا واسعًا، وغير مسبوقٍ بين مجتمعٍ عُرف بالماضي بالأمانة والصدق، والتزامه القيم الأخلاقية التي عاشوها عبر الأزمان.بنظرةٍ على مجمل خطط حكومة إسرائيل؛ نراها تتمحور حول مسارين رئيسيين، هما: إمّا الاندماج التدريجي والنهائي بحياة دولة إسرائيل، ما يعني الرضوخ لكل السياسات والإملاءات والإجراءات وعدم الخروج عنها، أو الدخول في مواجهةٍ مع سياساتها الرامية إلى خلق واقعٍ حياتيٍ متوترٍ، يميل إلى استمرار إشغال المجتمع الفلسطيني في الداخل بمشاكل العنف والجريمة والقتل. هذا الواقع يعكس موجِّهاتٍ بين هذين المسارين، إلى التهجير والترحيل (الترانسفير) تحقيقًا لقاعدة ومبدأ: أرض أكثر، عرب أقلّ.