لا يذكّر خطاب الممثلة الاسكتلندية - البريطانية تيلدا سوينتون، في افتتاح مهرجان برلين السينمائي قبل أكثر من أسبوع، بأهمية دور الفنون في مواجهة غطرسة الساسة فقط، بل أيضاً بتلك الحقبة المذهلة في مسيرة سوينتون (منذ منتصف الثمانينيات إلى منتصف التسعينيات)، حيث التجريب يذهب إلى الحدود القصوى، سواء في اختيار النصوص أو الأزياء وزوايا التصوير في أفلامها، وتحديداً إلى تحفتها "أورلاندو"، وهو من إنتاج 1992، وإخراج سالي بوتر. وربما يكون للأمر صلة بسحر الروائية البريطانية فرجينيا وولف (1882-1941).كتبت وولف روايتها "أورلاندو" اللافتة حقاً، إنْ في موضوعها أو تقنياتها الروائية، عام 1928، وتتناول بأسلوب أخّاذ سيرة شاعر شاب بالغ الوسامة يتحوّل إلى أنثى، ويعيش نحو أربعة قرون، إذ هو الرجل/المرأة، الكائن المتعالي على التجنيس، الحائر والمحيّر، العميق في تأملاته/ العميقة في تحوّلاتها، عبر سرد يأخذك عبر الأساليب وتداخلها والحقب الملكية ومستعمراتها، والأفكار حين تتخنّث، فإذا هي مطلقٌ ناقص يبحث عبثاً عن كماله.ليس ثمة من يشبه سوينتون في تاريخ السينما، أو لنقل أن ثمة قلة وصلت إلى تلك الذرى في أدائها، وليس هذا فقط بل في كونها أورلاندو حقيقياً وجد نفسه داخل تلك الفنّانة التي يوحي شكلها بأنها كائن ما بعد إنساني، فضائي إذا شئت، من خارج هذا الكوكب، ما ينأى بها عن التصنيف الجنسي، فبنحولها وقامتها الطويلة ونظرات عينيها الغامضتين، تبدو تيلدا سوينتون أورلاندو معاصراً، ودعك من جمال أورلاندو/ فرجينيا وولف في طوريه الذكوري والأنثوي، ذلك أن مفهوم الجمال نفسه ومعاييره يتم القفز من فوقها، وصولاً إلى جوهر التحوّل نفسه، وشواشه وأسئلته وحيرته، بل واكتفائه بنفسه.ذلك يعني أن فرجينيا وولف وجدت بطلها، ذلك الذي كتبته في تمثّل حقيقي قفز إلى السينما وأخذ ينظر إلينا بعينيه الغريبتين.يشبه ذلك ما فعله نجيب محفوظ في ثلاثيته البديعة، حين أنتج سي السيد وتركه يخرج من الرواية ويتجوّل في طرقات الناس، في شوارع القاهرة وبقية المدن العربية، وفي الدراسات الاجتماعية والتحليلات السيكولوجية للشخصية العربية ممثّلة به، وثنائياته وتناقضاته، بين تزمت وتهتك، بين حداثة مجانية وأصولية عمياء، ليصبح هو نفسه معياراً ونموذجاً للدرس والتحليل.وهو ما لا يتحقق إلا بالإبداع العظيم الذي ينتج شخصية تتمتع بأصالة نادرة ما يجعلك لا تصدّق أنها متخيّلة، كما أنها تتمتع بنمط سلوكي يجعلها معياراً لفهم الأفراد والمجتمعات وتحوّلاتها.في حالة فرجينيا وولف يبدو الوضع أكثر تعقيداً، فقد أنتجت نموذجها المضاد للمعيار الذي يسود في الآونة الأخيرة لا بسبب النزعات الليبرالية المتوحشة، التي لا تُعنى بمواضعات المجتمع بل بسبب تطوّر أدوات الحداثة التي ساوت بين الذكورة والأنوثة، وتطورت بحيث أصبحت قاهرة لا تقبل سوى تلك السيولة الجنسية في مقاربتها، وهو أمر بالغ الخطورة، سواء قبلته أم رفضته، وتقف وراءه امرأة نحيلة، بريطانية، صدف أنها روائية، بتمزقات سيكولوجية أصبحت معروفة وعلى طاولة العلاج في العيادات النفسية والعقلية، ما دفعها إلى أمرين: الكتابة والانتحار.ثمة فيلم يذكّر بفرجينيا وولف وإن لم يكن مأخوذاً من أحد أعمالها، وهو "من يخاف فرجينيا وولف"، وهو يُستعاد هنا للتذكير بأن السؤال الحقيقي على ضوء ما سبق هو من لا يخاف فرجينيا وولف، بأنفها الطويل بعض الشيء، وبمعطفها المليء بالحجارة وهي تتجه إلى النهر، وتستسلم للتيارات العميقة فيه، تلك التي تأخذها إلى الأسفل، إلى قلب الماء نفسه الذي جعل الله منه "كل شيء حي"، كأنما الماء يعيدها إلى ما قبل الذكورة والأنوثة، إلى الكائن الكامل المكتفي بنفسه، الوحيد في الكون، فإذا هو ملاك وحسب.ذلك يذكّر بيوسف أيضاً، وكان جميلاً أيضاً، حين رُمي في البئر، حيث على الماء أن يعيد تشكيلك، فإذا به يخرج نبياً، على خلاف فرجينيا وولف بمعطفها وهي تغرق في النهر، فإذا هي تخرج بنموذجها المضاد، المعاصر بتطرف، الشيطان/ الملاك، أورلاندو يتجوّل بفتنته والحائر بها، كأنه قادم من هناك، من الفضاء مثلما يوحي شكل تيلدا سوينتون، ومن الكتابة حيث تنظر إلينا فرجينيا وولف، كأنها تقول ألم أقل لكم؟حقاً من لا يخاف فرجينيا وولف؟