تشهد مصر أزمات متكررة تعكس غياب التمثيل السياسي وانحسار دور المؤسسات الديمقراطية التقليدية مثل الأحزاب والنقابات، ما يفتح المجال أمام كيانات تستند إلى أسس قبلية أو مصالح اقتصادية ضيقة، وهو ما يعيد تشكيل بنية الدولة بطريقة تتناقض مع مفهومها الحديث. آخر هذه الأزمات تتمثل في الجدل الواسع حول تصريحات رجل الأعمال حامد الشيتي بشأن دور البدو في مصر في تعطيل الاستثمار بالساحل الشمالي، والرد العنيف الذي جاء من رئيس اتحاد القبائل المصرية، إبراهيم العرجاني، بقوله إن "البدو خط أحمر". هذا التراشق الإعلامي لم يكن سوى انعكاس لصراع أعمق بين شبكات النفوذ التي تشكلت في ظل غياب مؤسسات سياسية تمثل المواطنين بشكل حقيقي.يقول خبراء إن أحد الجوانب الأكثر خطورة في هذه الأزمة هو أنها تكشف عن خلل جوهري في بنية الدولة المصرية. فلم تعد الدولة قادرة على العمل وفق قواعد المواطنة المتساوية، بل أصبحت تعتمد على تحالفات غير رسمية مع كيانات ذات طابع قبلي أو اقتصادي نفعي، في ظل غياب الأحزاب القوية والنقابات الفاعلة، وبالتالي سمحت بخلق كيانات جديدة تتمتع بسلطة فعلية تفوق أحياناً مؤسساتها الرسمية. هذا الوضع يعيدنا إلى أنماط قديمة من الحكم، يتم الاعتماد فيها على ولاءات محلية أو اقتصادية بدلاً من المؤسسات الديمقراطية.يأتي ذلك في سياق تصريحات سابقة للرئيس عبد الفتاح السيسي الذي أعلن صراحة في أحد خطاباته أنه "ليس سياسياً". يكشف التصريح بوضوح عن رؤية الدولة المعاصرة في مصر، والتي لم تعد ترى السياسة بوصفها عملية تفاوضية داخل مؤسسات تمثيلية، بل تعتبرها مجرد إدارة أمنية واقتصادية. يفتح هذا التوجه الباب أمام سيطرة رجال الأعمال والمجموعات القبلية على المشهد، حيث يتفاوضون في ما بينهم على النفوذ بعيداً عن أي قواعد ديمقراطية حقيقية. في ظل هذا الواقع، قد تتدخل الدولة لضبط الخطاب الإعلامي، أو تصدر قرارات شكلية لتهدئة الأوضاع، لكنها لن تمس جوهر المشكلة، وهو غياب التمثيل السياسي الحقيقي الذي يسمح بحل مثل هذه الأزمات داخل مؤسسات ديمقراطية بدلاً من حلها عبر شبكات المصالح أو الولاءات القبلية.محمد أنور السادات: تحفظات على ظاهرة اتحاد القبائل أو غيرها من الاتحادات التي تمارس دوراً سياسياًغياب التمثيل السياسيفي هذا السياق، يقول عضو مجلس حقوق الإنسان والسياسي المصري محمد أنور السادات، في حديث لـ"العربي الجديد"، إنه في ما يخص احتكاك بعض من رجال الأعمال مع البدو في مصر "سواء في الساحل أو في مناطق أخرى، فإن هذه الظاهرة، سواء اتحاد القبائل أو غيرها من الاتحادات التي تمارس دوراً سياسياً، كلها عليها تحفظات". ويشير إلى "غياب التمثيل السياسي المتمثل في النقابات أو المحليات أو الاتحادات"، معتبراً أنه "من الطبيعي أن تكون هناك فرصة لأي من رجال الأعمال الذين يحتمون بالدولة وبأجهزتها، سواء بطريق مباشر أو غير مباشر، لفرض السيطرة والنفوذ". وباعتقاده فإن "هذه المسألة طبعاً غير مقبولة ولا بد أن تتوقف، فهي ظاهرة جديدة على المجتمع المصري"، آملاً أن "تنتهي قريباً مع انتخابات جديدة ربما تكون أكثر تمثيلاً وتعبيراً عن الشعب المصري".عمرو هاشم ربيع: مع ضعف الأحزاب، فإن الانتماءات الأولية تتزايدأبعد من جدل البدو في مصرأما المستشار في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، عمرو هاشم ربيع، فيعبر عن رؤيته للأزمة المتعلقة بموضوع البدو في مصر والجدل حوله، بالقول إنه "لا شك أنه لو لدينا قوة سياسية حقيقية مبنية على انتماءات حديثة مثل الأحزاب السياسية، لما شهدنا مثل هذه الظواهر". لكنه يضيف لـ"العربي الجديد"، أنه "مع ضعف الأحزاب، فإن الانتماءات الأولية تتزايد، ما يعني أن كل شخص يدافع عن طائفته أو جماعته، سواء كانت قبيلة أو ديناً أو مذهباً أو حتى عائلة. الجميع يعود لانتماءاته الأولية لأنه لا يوجد بديل سياسي حقيقي". وبرأي ربيع فإن "المشكلة الكبرى أن هذه الظاهرة ليست مجرد نتيجة لضعف الدولة، بل إن الدولة نفسها سمحت بخلق هذه الكيانات، والآن تواجه عواقب ذلك"، موضحاً أنه تم "منح العرجاني وغيره نفوذاً واسعاً، والآن بعد أن أظهر أنيابه، أصبح من الصعب احتواؤه".ويعتبر أن السؤال المطروح ماذا سيحدث إذا قرر رجال أعمال آخرون من البدو في مصر أو أي طرف آخر يملك المال والسلاح "استخدام نفوذه بالقوة؟ ومن المسؤول عن ضبط هذه المعادلة المختلة؟"، ويقول: "نحن الآن نحصد ما زرعناه". أما أستاذ علم الاجتماع السياسي، الدكتور سعيد صادق، فيصف ما يجري حول جدل دور البدو في مصر بأنه "صراع قوى واستعراض عضلات بين جناحين من رجال الأعمال المرتبطين بالسلطة، إذ يسعى كل طرف لإثبات أنه الأقوى والأكثر دعماً من الدولة". ويعتبر أن "هذه المنافسة تأخذ طابعاً استعراضياً، وهو اختبار بين الجناحين لمعرفة من يحظى بالنفوذ الأكبر".