هنري توماس.. القصيدة تأتي من الواقع

Wait 5 sec.

كثيراً ما يتساءل قرّاء الأدب: من أين أتت هذه القصائد أو هذه الرواية؟ والجواب الأقوى من بين كلّ الأجوبة هو: من الواقع. ينسحب السؤال والإجابة على تجربة الكاتب والمُترجم والشاعر الفرنسي هنري توماس (1912 - 1993) الذي أتت نصوصه النثرية والشعرية من الواقع، فأقبل القرّاء والنقّاد على تخييله الذي لا تفارقه التحوّلات والملاحظات الدقيقة.عُرف توماس ناثراً أكثر منه شاعراً، وفاز بجائزتَين أدبيّتَين بارزتين؛ هُما "جائزة ميديسيس" سنة 1960 عن روايته "جون بيركينز" و"جائزة فيمينا" سنة 1961 عن روايته "المنحدر". لكنّه ظلّ يمزج النثر بالشعر. وفي أعماله الشعرية الكاملة التي نشرتها "دار غاليمار" عام 1970، نجد قصائد كثيرة تُحيل إلى كتاباته السردية؛ وخصوصاً رواية "ليلة لندن" (1956) التي اعتبرها النقّاد مرآة للعزلة والحياة الهائمة والمعتمة.يقول الكاتب والناقد الفرنسي جاك برونير، في مقدّمته لهذه الأعمال الكاملة: "كلُّ شيء واقعي عند هنري توماس، مثلما كان نيرفال بالأمس لا يخاف أحد من حدّة ووضوح ملاحظاته".نحن نعرف عالمنا جيّداً، نراه ونحصي موجوداته ضمن لائحة لا نهائية. لكنّنا سنقرأ، في نصوص توماس، عالماً جديداً تماماً مخبأً في العالم الأوّل، يجعله الشاعر يظهر بشكل مفاجئ، وهو ما يسمّيه برونير "هبة الرؤية المزدوجة التي اختصّ بها الشاعر".ينقل الشاعر للقارئ ما رآه هو أوّلاً، وأحياناً يلجأ إلى خياله وأساليبه الفنّية، فثراء الواقع يكفيه ويريد نقله بأسلوبه الخاصّ. وبالنسبة إلى هنري توماس، ليس من الضروري كتابة الشعر داخل أبيات شعرية كي تكون شاعراً، فقد ظلّ يرى في الشعر النقطة الأكثر حساسية في الأدب. وهذا موقف يصدر عن كاتب دخل عوالم الأدب عن طريق الشعر، وهو الذي نشر قصائده الأُولى في مجلّة "قياسات" الشعرية الفرنسية عام 1938.بقيت رغبة الشاعر مستمرّة في مزج النثر بالشعر، فألّف سنة 1963 مجموعة شعرية صغيرة بعنوان "تحت رابط الزمن"، وظّف فيها أقوى أساليب قصيدة النثر. ومنها ترجمنا هذه القصائد التي تمثّل البساطة سرّ قوّتها؛ ففيها تسجيلٌ لوقائع يومية، مثل ما تفعل كاميرا أو ريشة رسّام متعاطف مع الناس، وهُم يخوضون تجارب وجودهم على الأرض.وقد تساءل جاك برونير، في تقديمه، كيف أمكن للشاعر الخلط بين مقاطع، هي عبارة عن يوميات تعكس الواقع العاري، وبين قصيدة هي عبارة عن نقل موسيقي وصوري، تخييلي، للحظة أو للحظات من الطبيعة نفسها.وسبق لهنري توماس أن تحدّث عن "كُتل" من التجربة تتحوّل إلى "أشكال ضرورية واستثنائية، تصبح شريكة لعين القارئ"، ويضيف برونير إلى هذه الفكرة أنّ الشروط التي يجب أن تجتمع من أجل إنتاج قصيدة ليست دوماً هي نفسها، وهذا أمر ظاهر في هذه المختارات التي يتغيّر في أسلوبها الشعري كلُّ شيء إلّا القانون الأساسي المؤسِّس والضامن لشعرية وعمق قصيدة هنري توماس: المرجع الواقعي في شكل صور خالصة "تطمح إلى رفع ستارة الزمن وكشف مجزوءات الأبدية".عاصمةخمسُ نوافذ خمسة طوابقأضاءت فجأة.أنبوبٌ، عمودٌ من الضوء،تدفُّقُ قلب ملعون في السُّمك،بئر مناجم شديدة الخُطُورة،حيث يُغامرببطء وحذرظلّت تدور وتتبع المنحدرَفي قلب الكُتلة المُبهمةحيث أنا نفسيحفرتُ زنزانتي وشممتُ غازاالليالي المليئة بالبُثور.■ ■ ■سأذهب غداًالجبال الحيّة والمتشنّجةلم تعد سوى حجارة شقراءحين يغمرها الضوءتصعق العيون المُتعَبة،لكن البداية المُريبةلكن أن تكون شخصاً مستيقظاًأيتها النافذة الشاحبة، ويمد أُذُنهإلى إشاعة السُّيول،اقتراب الأفق الخجولالجمال الهارب أمام البشاعة،عذاب الأشكال الموشكة على التفقيس،إنضاج الجبال السوداء،النشيد المُغامرُ المنخفضالجمرات تحضنُ في المأوى،في الصمت الذي ما زال عذرياًالأرض تَرنّ تحت قدمي.■ ■ ■منحدر أيلولأيها الوحشيصَمتُ نهريجري على طول الضفاف،أيها الرائعقُبّة من الأوراقتمتلئ بالذهب،أيها السعيدمرعى اليومحديث الولادة،السماء تميل عليفاكهة قابلة للقطف،أمنية متواضعة،هنا العقل،الحب والحلمشيّدوا بيتهم.