حنان بنت عبدالعزيز بن سيفما بين التأمل والحب والحكمة والطبيعة وُلد الشاعر السوداني العبقري الموهوب: (إدريس جماع). هو شاعر سوداني حديث أحب الجمال فتغنى به، وتيمه الحب فقتله، وهيمه الحسن فأفقده صوابه، فلاذ بالشعر يشكيه همه، أليس هو الشاعر البليغ الذي نعى حظه بالدقيق المنثور على الشوك، فهزج على قيثارته مردداً:إن حظي كدقيقفوق شوك نثروهثم قالوا لحفاةيوم ريح اجمعوهصعب الأمر عليهمثم قالوا أتركوهإن من أشقاه ربيكيف أنتم تسعدوه؟هو ابن النيل الذي تاق بوصفه ورسمه ونعته فكان يلقب بـ(ابن النيل) وله رائعة فيه سماها: (رحله النيل) يقول فيها:النيل من نشوة الصهباء سلسلةوساكنوا النيل سمار وندمانوخفقة الموج أشجان تجاوبهامن القلوب التفاتات وأشجانوحينما يلقى على مسمعك ذلك البيت الشعري الغزلي النفيس:والسيف في الغمد لا تخشى مضاربهوسيف عينيك في الحالين بتاروهو من جنس البيت الشعري لابن اللبانة الأندلسي الذي أبدع فيه بقوله:السيوف قواطع إن جردتوحسام لحظك قاطع في غمدهوبيت إدريس جماع المتقدم حينما يلتقطه ذوقك لأول وهلة تظن أنه لذي الرمة، أو مجنون ليلى، أو محب الأخيلية، أو متيم سعادة. وقد عده النقاد المحدثون أغزل بيت في الشعر الحديث قضى، وله آخر يقول فيه:أنت السماء بدت لناواستعصمت بالبعد عناوإنه ليتمثل مشهد محبوبة الأعشى هريرة التي تألق في وصفها، ومشهد تلك الجميلة عند إدريس جماع على أنها مشهد واحد، بل هما يصبان في ذوق شعري فريد، أما الأعشى وقد حفظنا شعره في هريرة يقول:ودع هريرة إن الركب مرتحلوهل تطيق وداعاً أيها الرجل؟غراء فرعاء مصقول عوارضهاتمشي الهوينى كما يمشى الوجي الوحل.ليست كمن يكره الجيران طلعتهاولا تراها لسر الجار تختتلوإدريس جماع له غزل عفيف صراح، يخاطب امرأة راعه حسنها وجمالها: فقال:هزته فيك محاسنغنى لها لما تغنىآنست فيك قداسةولمست إشراقاً وفنادنياي أنت وفرحتيومنى الفؤاد إذا تمنىهلا رحمت متيماًعصفت به الأشواق وهناوكما حالف الحظ كلاً من المحبوبتين هريرة محبوبة الأعشى. وتلك الجميلة التي غنى لها جماع، حينما عزف الشاعران على عمود الغزل العربي العفيف بما تناغما وصدحا به، وكما عدد الأعشى سمات المحبوبة الخلقية والخلقية، كان لمحبوبة جماع مدد وافر من هذا الوصف عرج فيها على جمالها وسحر منطقها، وحلاوة وجنتيها وعينيها:ونظرت في عينيكافاقاً وأسراراً ومعنىوسمعت سحرياًيذوب صداه في الأسماع لحناًنلت السعادةفي الهوى ورشفتها دنا فدناقيدت حسنك فيالخدود وصنته لما تجنىوحجبته فحجبتسحراً ناطقاً وحجبت كوناوأبيت إلا أن تشيدللجمال الحر سجنافكلا الرمزين الشعريين في القديم والحديث جمعهما ألم مشهد الوداع، ولحن البهاء والحسن والجمال في إبداع رسم وصنع الخالق الرباني عز وجل. هذا وقد ترجمت كتب الأدب للشاعر السوداني إدريس محمد جماع فقالت: ولد الشارع المتيم المعنى في مدينة الخرطوم عام 1922م، حفظ القرآن الكريم، ونشأ نشأة دينية لأسرة محافظة، فوالده محمد جماع بن الأمين بن الشيخ ناصر شيخ قبيلة العبدلاب، وحينما شبَّ عن الطوق سافر إلى مصر في الأربعينيات من القرن العشرين المنصرف، حيث درس في معهد المعلمين ثم التحق بكلية العلوم في جامعة القاهرة وتخرج منها عام 1951م ثم حصل على درجة الليسانس في اللغة العربية وآدابها، ومن ثم حصل على دبلوم التربية زهاء عام 1952م، ففي بداية حياته درس وحوصل مادة اللغة العربية، وكتب جماع شعراً وطنياً للاستعمار، وتناول في أشعاره قضايا البلاد العربية في كل من الجزائر ومصر وفلسطين، وشعره تراثي عمودي عربي اللفظة، مشرقي النبرة, اتسم بالرقة والوصف فهو وصاف رسام مجنح الخيال من الطراز الفائق، ثم هو من رواة التجديد الشعري في العالم العربي ومن شعراء مدرسة الديوان ويعد ضمن زمرة عبد الرحمن شكري، وعباس محمود العقاد، وإبراهيم المازني وإدريس محمد جماع لم ينل ما يستحقه من الاطراء والثناء والدراسة والتحليل, فقد كانت نهايته مأساوية، وحاكت الكتب التي قيلت فيه الأساطير حول إصابته بلوثة جنون، فهو قد فقد عقله إثر قصة حب وعشق لم يكتب لها النجاح، فسلك مسلك الشعراء الغزليين الأوائل، حيث هام على وجهه في الطرقات شارداً تائهاً معناً، فما كان من ذويه والقائمين على أمره إلا أن المهم الخطب، فذهبوا به إلى خارج البلاد ليتم علاجه، إلا أن الأقدار شاءت أن يقضى بقيه عمره في مصحة نفسية. وتقص علينا الكتب التي ترجمته وصيغت في أخباره، أن الشاعر كان عاشقاً للجمال، ففي إحدى المرات اعجب بإمراه جميلة قابلها في المطار وهي برفقة زوجها، الذي غضب الغضب الشديد من طول تحديق ونظر الشاعر إليها، فما كان من جماع إلا أن شدى قائلاً:أعلى الجمال تغار مناماذا علينا إذ نظرنا؟هي نظره تنسى الوقاروتسعد الروح المعنىوقد كان محظوظاً بنيل إشادة وثناء الأديب المصري الراحل عباس محمود العقاد، فعندما سمع البيتين أخبره من كان معه أن صاحبها نزيل إحدى المصحات النفسية، فما كان منه إلا أن علق بقوله: (هذا مكانه لأن هذا الكلام لا يستطيعه ذوو الفكر). وجماع عاشق الجمال معني به أينما وجده، حيث كانت الممرضة الإنكليزية التي تتابع حالته في لندن جميلة العينين، فتاق الشاعر برسم عينيها، فأزعجها طول تحديق الشاعر لها، فلاذت بمدير المستشفى تشكو إليه شدة تحديق الشاعر في عينيها، فنصحها أن ترتدي نظارة سوداء، فلما رآها الشاعر وهي ترتدي النظارة تعجب كثيراً وقال:والسيف في الغمد لا تخشى مضاربهوسيف عينيك في الحالين بتاروحينما ترجم البيت لها، بكت بحرقة وشدة وألم من نهاية هذا الشاعر العبقري تلك النهاية المأساوية، لكن الشاعر كان أفرس منها بحظه أليس هو القائل كما مرَّ بك:إن حظي كدقيقفوق شوك نثروهثم قالوا لحفاةيوم ريح اجمعوهصعب الأمر عليهمثم قالوا أتركوهإن من أشقاه ربيكيف أنتم تسعدوه؟ويعقب الكاتب ياسر غريب على هذه الأبيات الشعرية بقوله: (طارد البؤس إدريس جماع حياً وميتاً حتى أصبح الرائح والغادي ينشد له أشهر أبيات البؤس). هذا وقد أنكر الكثير من كبار الشعراء، وصناع القصيد والقريض أن يكون الشاعر به لوثة جنون، ودليلهم على ذلك تلك الأبيات الغزلية -سلفت أيها القارئ الحصيف- التي قالها وصدح بها والتي أصبحت مسار الحكمة الشرود، والبيت الشعري السائر حتى غدت مغدى الأمثال التي يتمثل بها ويضرب عليها. ويؤيد هذا الرأي ما نشرته صحيفة المدينة للكاتب ياسر غريب من كلمة ماتعة صادقة جاء فيها: (من ينظر بغير عين الفن لا يبصر ما يبصر غيره،…. وكم انخدع الناس في أهل الفن فظنوا المجنون عاقلاً نبيهاً، وحسبوا العاقل مجنوناً سفيهاً، وما دروا أن الذكاء في الفن له خصائصه ومعالمه ومن لا يدرك ذلك فقد أخطأ ووقع فيما لا تحمد عقباه)، ولم يترك الشاعر سوى ديوان واحد باقٍ وعنوانه: (لحظات باقية) وقد ترك فيه خلجات من وجدانه، معتمداً على الشعر الكلاسيكي بأوزان خفيفة وموسيقى هادئة, ولم يطرق قصيدة التفعيلية أو قصيدة النثر، بل اكتفى بإحداث تغيير بسيط في وزن الشعر وثمة الكتابة المقطعية للقصيدة. وصفه يراع الدكتور عبده بدوى في كتابه (الشعر الحديث في السودان) فوسمه ومازه ورمز له بقوله: (إن أهم ما يميز الشاعر جماع هو إحساسه الدافق بالإنسانية وشعوره بالناس من حوله، ولا شك في أن هذه النغمة جديدة في الشعر السوداني), وللباحث الدكتور عبد القادر الشيخ إدريس رسالة دكتوراه حول شعر الشاعر جاءت تحت العنوان التالي: (الشاعر السوداني إدريس جماع حياته وشعره)، وللباحث محمد حجازي كتاب: (جماع قيثارة النبوغ)، وطبع ديوان الشاعر العبقري الموهوب ثلاث مرات، بتحقيق الأستاذ منير صالح عبد القادر – أبو ظبى 1984م، دار البلدية بالخرطوم 1998م. ولم يكن عمر الشاعر إدريس محمد جماع إلا عمراً قصيراً فقط كانت وفاته عام 1980م عن أعوام عدة، ناهزت الثامنة والخمسين عاماً. غير أن جماع ما زال في قلوب السودانيين وأهازيجهم وأزجالهم الغنائية -سقى الله تربته بالعفو والرضوان-.مادة المقالة مستقاة من:– ما لا تعرفه عن جنون الشاعر السوداني– إدريس جماع– عزمي عبد الرازق – الجزيرة – 2022م– الشاعر الذي لقب بالمجنون – إدريس جماع –– مريم على جبه – ديوان العرب. 22 فبراير – 2022م.– قصة شاعر موهوب أفقدته النساء عقله دخل مستشفى المجانين فأحب حتى الممرضة– محمود عبد الوارث – المصري اليوم نوفمبر 6, 2016م.شاعر وصفه العقاد بعبقري مجنون.د. محمود بدوى مصطفى. العربية – 129 اغسطس 2020م.– إدريس جماع شاعر ذهب الجمال بعقله.– مجلة فكر الثقافية. 26 يونيو 2020م.__________________________________نشر هذا المقال علي صحيفة الجزيرة السعودية بتاريخ الخميس 30 نوفمبر 2023 على الرابطhttps://www.al-jazirah.com/2023/20231130/wo2.htmThe post إدريس جماع.. شاعر عبقري أذهب الجمال عقله (مقال مستعاد) appeared first on صحيفة مداميك.