الإعلام السوري زمن الحرية... كتابة بيد هجرتنا

Wait 5 sec.

تصل ورقة من وزارة الدفاع السورية إلى الناطق باسم وزارة الخارجية جهاد مقدسي في مايو/أيار 2012، ليخرج في مؤتمر صحافي يدحض فيه وقوع مجزرة الحولة (20 كيلومتراً شمال غرب مدينة حمص وسط سورية)، ولاتهام قوات "المعارضة المسلحة" بأنها من ارتكبتها. بتلك الطريقة، يدار الإعلام في بلاد الظل، فهناك أشخاص مخفيون دائماً يرسلون برقيات وتعليمات وبيانات لقراءتها على مسامع الشعب، وإيصال أفكار خدّاعة.لا يحتاج السوريون إلى معرفة تلك المعلومة كي يدركوا الخط الإعلامي وسياساته التحريرية في بلدهم المنهك بإيجازات وبيانات ونشرات أخبار، وسماع بيانات انتصار "الجيش العربي السوري" في حربه على "المجموعات المسلحة"، فهم لا يلزمهم تأكيد المؤكد، لأن إدارة الإعلام في الأنظمة السلطوية والديكتاتورية معلومة، فما بالنا في بلد مثل سورية كل شيء محسوب فيه؟الإعلام السوري كان دائماً مقيداً موجهاً عبر صحفه الرسمية الثلاث (البعث، تشرين، الثورة)، ووسائله المرئية والمسموعة. في مطلع الألفية، ظهرت محاولات فردية بـ"دعم" من رئيس النظام المخلوع بشار الأسد، وناورت في هوامش "الحرية والانفتاح" التي ادعاها لما صعد إلى سدّة الحكم، لكنها سرعان ما اصطدمت بالعراقيل الأمنية والتضييقات، ما اضطرها إلى الإغلاق، حتى إن الرئيس الفارّ صم أذنيه عن المناشدات لإعادتها إلى العمل، فقضى بذلك على "مشروعه الإعلامي الذي وعد به من حرية تعبير وانفتاح آراء...".لم يكن الإعلام في الخمسين عاماً الأخيرة يوماً حراً إلا بما تريد السلطة تمريره، وما تبتغي خلفه من رسائل ترصد ردات الفعل عليها. لقد جعل النظام الحاكم الرأي مكتوماً وانطلق بعالم الإعلام في رحاب الأدلجة حتى يضخ في وعي ولاوعي الجمهور ما يريد أن يسمعه للناس، ويلقنهم ما يحب أن يسمع وما يرغب في بثه فيهم كي يرددوه تلقائياً، فكثرة ترداد الشعارات والخطاب تجعلهما ينسلان إلى النفس ويترسخان فيها ويمسيان الرأي الذي تنطق به العامة قصداً أو عفو الخاطر.سقط النظام السوري في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024. ما الذي تغير في الخطاب الإعلامي السوري بعد ذلك التاريخ؟ ما مصير حرية التعبير؟ كيف سيكون التعاطي الرسمي مع الانتقادات؟ أسيكون نسخة عن إعلام النظام؟ هل سيتبع الوسائل نفسها من تمجيد وتستر على الأخطاء؟ إلامَ يستند في رؤيته المستقبلة؟حتى الآن، لا يزال التلفزيون السوري الرسمي موقوفاً عن البث (يقال إنه سيعاود البث بداية مارس/آذار المقبل)، كون بنيته التحتية متهالكة ومعداته قديمة وهناك عملية إعادة هيكلة في كوادره، والصحف معطلة عن الصدور. الخطاب الرسمي غير موجود فلا نستطيع تقييم السلطة الجديدة وتعاطيها الإعلامي. كل ما يصدر عنها من قرارات وتعيينات غامض، يسعى خلفها متلقو الأخبار في وسائل التواصل الاجتماعي وقنوات "تليغرام"، وكثيراً ما يحدث تضارب في نقل المعلومة فيقع الناس في حيرة من أمر الخبر إن كان صحيحاً أم لا. الإعلام الرسمي هو وجه الدولة وصورتها، لا ينبغي أن يكون خارج الصفوف. لا بد أن يكون في الصف الأول يتابع ويراقب وينقل الحدث.السلطة الحالية مقصّرة إعلامياً، فهي لا تقدم رواية تؤرخ ما يحدث في البلاد وتبين طرق المعالجة. إنها تتبع الغرف المغلقة في "تليغرام" ونشطاء ينقلون أخباراً، قد تكون أحياناً غير مؤكدة، متجاهلة مركزية الإعلام بأنه خط معرفي يفتح الآفاق والمجالات لإيصال المعرفة/ المعلومة/ الخبر، فهو يتقصاها ويلملمها حتى تغدو أمام العامة يستطلعونها ويعرفونها.كثيراً ما ترد أخبار عن "تجاوزات وانتهاكات ترتكبها عناصر متفلتة وخارجة عن السيطرة" (بحسب توصيف جهاز الأمن العام)، ما يحدث حيرة وارتباكاً إن كانت تلك الحوادث صحيحة أو فيها تضخيم أو تهويل، فلا يزال أشخاص يسعون إلى زرع الفرقة والفتن في المجتمع، والسلطة الجديدة تعاونهم في ذلك بغياب إعلامها الرسمي الذي ينبغي أن يخرج على الملأ ويوضح الصورة. مرحلة الحرب انتهت فلا داعي لأن يكون الإعلام الحالي حربياً يجعل مريد المعلومة يتقصاها عبر حسابات ناشطين ومؤثرين قد يخطئون أو يصيبون.من تلك الانتهاكات ما حدث في قريتي مريمين وفاحل في ريف حمص الغربي أواخر الشهر الماضي (تكررت منتصف الشهر الحالي ثم دخل الأمن العام إليها في التاسع عشر منه)، ثم في قرية أرزة التابعة لمحافظة حماة وسط سورية، ثم في حي الورود في ريف دمشق. ما يهم هنا ضياع الرواية، فلم تبيّن السلطة ما يحدث، وتركت الأمر نهشاً لوسائل التواصل الاجتماعي، فوقع الناس في حيص بيص، لكن كثيراً من الإعلاميين كانوا سلطويين أكثر من السلطة، فلقد انبرى معظمهم، وهم من المحسوبين على الثورة، ليقدموا صورة منافية للواقع تناقض رواية الأهالي، لكن جاءهم الجواب من السلطة، تحديداً من محافظ حمص الذي زار منطقتي مريمين وفاحل وأقر بالتجاوزات ووعد بمحاسبة المسؤولين.لقد تبنوا الصورة ونقلوها عبر ما شاهدوه في مواقع التواصل الاجتماعي. لم يصلوا إلى أماكن تخدم أخلاقيات المهنة وإيصال المعلومة من أرض الواقع، لم يرافقوا إدارة العمليات والأمن العام، ما خلا عدداً بسيطاً منهم. لا يزالون يهللون للسلطة ولقراراتها وإن كانت غير صائبة وتحتاج إلى مراجعة أو تعديلات. الإعلام "الثوري" لم يعد ثورياً. لقد بات الآن إعلاماً سلطوياً ينافح عن الإدارة الحالية. لم ينتقد السلطة وبعض ممارساتها ولم يقوّمها، فالوظيفة الأساسية هي النقد وتصويب الخطأ وكشف المناطق المخفية، والعثور على الحقيقة في لحظات يعز على الآخرين كشفها. يمشي الإعلام الفردي الحالي (ليس كله) في سياق السلطة ويمتدحها. قد يكون ذلك خوفاً لكنه سلوك غير مبرر من المؤسسات المحسوبة على الثورة السورية ودعم الشعب السوري، فمن لم يهب الأسد لا ينبغي له أن يكون خائفاً اليوم من سلطة توفر "حيزاً مقبولاً لحرية التعبير والعمل الإعلامي".يقتضي العمل الإعلامي المهنية في نقل الحدث وألا يقحم ناقل الخبر نفسه فيه كي لا يكون جزءاً منه وتحكمه أهواؤه. هذه المهنية تأتي مترافقة مع الناحية الأخلاقية، وهذان شيئان أساسيان لا بد من توفرهما في نقل الخبر، هما شرطان لم يتحققا في تلك الحواث، فكأنما أولئك يريدون أن يكونوا سلطويين أكثر من السلطة نفسها، ويرغبون في أن يدافعوا عنها وهي من تعترف بالأخطاء وتعد بتصحيحها. إن قامت تظاهرات ضد السلطة الحالية، كيف سيكون رد فعلهم؟إعلاميو الثورة كثيرون نشطوا في سورية كلها وبرعوا، إما عبر مبادرات فردية أو مع المؤسسات التي يعملون فيها، فالإعلام يزيل الضغائن وينحّيها عندما ينزل إلى موقع الحدث، وينقل الصورة الحية الحقيقية مسكتاً كل الأقاويل والتهويلات والتنبؤات التي تنتشر عبر السوشال ميديا (وما أكثرها!).إذاً، يعتمد الإعلام حالياً على ناشطين ومؤثرين ذوي أهواء ومصالح محددة، قليلون منهم مستقلون، فالحالة السورية تحتاج إلى خطاب إعلامي جامع، ذي توجه وطني موجه إلى الناس عامة، إلى السوريين جميعاً، يصيغ محاور عديدة ويتبنى معايير تخدم قضاياهم الحياتية وتطلعاتهم المستقبلية، كي لا يصبح نسخة عن إعلام النظام الذي كان موجهاً ومداراً بحنكة وفق مفردات تلائمه وتخدم توجهاته وسياساته. لا يجب أن تترك الصورة قاتمة غائمة، فلا مناص من نقلها فوراً وتوضيحها وعرضها كما هي، فـ"السوشال ميديون" اليوم ليسوا على سوية واحدة، فكثيرون منهم يبررون قتل مدنيين، وأنه طبيعي، متبنين خطاباً انتقامياً تحريضياً.لا ريب أن طريق الإعلام وعر، وفي المنطقة العربية أشد وعورة، لكنه أخّاذ جذّاب، فالإعلاميون المحسوبون على الثورة أصابتهم الحماسة ونشوة الخلاص من بشار الأسد وهتفوا لذلك. حتى لو لم يكن الخبر في صالح السلطة ينهض أولئك "السوشال ميديون" ويقولون إنه عين الصواب، وإن كان ضدها يقولون إنه مبالغة وتهويل، مستخدمين تعابير وألفاظاً لا تليق بالنفس البشرية وبالعمل الإعلامي.المعركة السورية الآن معركة وعي، سلاحها الإعلام الوطني المدني المستقل، فله الدور الأهم فيها لينقل الواقع كما هو من دون برامج مهيئة وأفكار معدة أو أهداف قد تتكرر فيها الأخطاء السابقة وتصبح الكتابة بأيدي من سبقونا.