السينما المصرية... ربع قرن من تجارب فردية لم تكتمل

Wait 5 sec.

تأمّل هوية السينما المصرية جمالياً وفنياً، في الربع الأول من القرن الـ21، يستلزم تحديد هويتها وظروفها الإنتاجية قبل ذلك التاريخ، لتكون المقارنة منصفة وموضوعية في الإجابة عن تساؤلات من نوع: أهناك سينما مصرية جديدة فعلياً، تختلف، كلّياً أو جزئياً على الأقل، عن سابقاتها، وتُقدّم صُوراً واشتغالاتٍ درامية وجمالية وفنية ترتبط بواقع وذاكرة وحكايات؟ أم أنّ الحاصل منذ ربع قرن امتدادٌ للسابق عليه، مع استثناءات تحضر في مهرجانٍ أو عرضٍ ثقافي؟في مصر، البلد العربي الوحيد الذي توجد فيه صناعة سينمائية بالمعنى الحرفي لكلمة صناعة، وحتّى ما قبل ثورة الديجيتال، نهاية القرن الماضي، كانت السينما تُعاني سطوة نجم الشبّاك، الذي يلتهم وحده ثلثي ميزانية العمل. السوق المحلية وحدها لم تكن كافية لاستعادة أموال الإنتاج. لم تكن القنوات الفضائية منتشرة كالآن لتُكوّن سوقاً مهمّة لتوزيع الفيلم، فاعتمدت الصناعة على التوزيع الخارجي، منطقة الخليج أساساً. كان الموزّع يفرض أسماء النجوم، وأيضاً يفرض رقابة سياسية ودينية. ومن يرغب في تقديم أيّ عمل سينمائي، عليه أنْ يستسلم لهذه الشروط كي يحصل على "سُلفة التوزيع".هكذا انتشرت سينما المقاولات في ثمانينيات القرن الـ20 ومستهلّ تسعينياته، وبعضها لم يُعرض سينمائياً أبداً، واقتصر على توزيع الفيديو في الخليج. وبين حين وآخر، كان يظهر عملٌ لأحد أبناء جيل الواقعية الجديدة.حينها، ظهرت استثناءات محدودة: يسري نصر الله في "سرقات صيفية" (1988)، أول تجاربه، مستعيناً بوجوه جديدة وأصدقاء لم يمثّلوا من قبل، إلى ممثلين محترفين من غير النجوم. واستعان بأناسٍ حقيقيين في المكان، والتصوير حصل بكاميرا سوبر 16 ملم لتخفيض الموازنة. لم ينجح الفيلم جماهيرياً، لكنّه استُقبل بترحاب نقدي، وشارك في مهرجانات كثيرة، بينها "نصف شهر المخرجين" في الدورة الـ41 (11 ـ 23 مايو/ أيار 1988) لمهرجان كانّ.الفيلم من إنتاج "شركة أفلام مصر العالمية" (يوسف شاهين)، وهناك دعم فرنسي تمثّل في مساهمة بالمعمل والميكساج. فتحت هذه التجربة الباب أمام مخرجين ومخرجات جدد آنذاك، كان مستحيلاً أن تخرج أفلامهم، خاصة الأولى، بشروط السوق التقليدية: "شحاذون ونبلاء" (1991)، و"كونشرتو في درب سعادة" (1998)، لأسماء البكري، و"أحلام صغيرة" (1993)، لخالد الحجر، وأفلام نصر الله أيضاً "مرسيدس" (1993)، و"صبيان وبنات" (1995)، و"المدينة" (1999). هناك فيلم قصير لعاطف حتاتة "عروسة النيل" (1993)، ثم روائيّه الطويل الأول والوحيد إلى الآن "الأبواب المغلقة" (1999)، الذي يُعّد أهم وأصدق فيلم في تاريخ السينما المصرية عن كيفية صُنع الإرهابي في جيل المُراهقين.تميّزت تلك التجارب بأمرين: الأول، كسر احتكار نجوم الشباك، وبالتالي إنتاج أفلام بميزانيات منخفضة، لأنّ شاهين كان يوفّر لهم المعدات والكاميرات. الثاني، إتاحة الفرصة أمام جيل جديد بأفلامٍ تعالج موضوعات فكرية واجتماعية وسياسية، بمستوى فنّي مرتفع، مع تجديد في الإخراج، والجرأة على مزج الذاتي بالتخييل التاريخي. لكنّ تلك الفرص لم تكن تُتاح إلا لمن هم في دائرة شاهين فقط، وأغلب الأفلام عُرضت في الصالات أسابيع قليلة.في أجواء ونظام كهذين، حَدّدا أشكال الإنتاج، ظهر صدفة "إسماعيلية رايح جاي" (1997)، لكريم ضياء الدين، مع وجوه شابّة حقّقت إيرادات عالية جداً بخلاف توقّعات المنتجين والموزعين، فأحدث انقلاباً مهماً في سوق النجوم، في إطار النظام التقليدي للإنتاج، وفتح الباب أمام الشباب من نجوم الكوميديا الجدد، أو المُضحكين الجُدد، كمحمد هنيدي وعلاء ولي الدين وغيرهما، بدءاً من "صعيدي في الجامعة الأمريكية" (1998)، لسعيد حامد، و"عبود على الحدود" (1999)، و"الناظر" (2000)، لشريف عرفة، وأفلام أخرى تالية، ظلت موضوعاتها تدور في إطار كوميدي أو هزلي، ولا ترقى إلى مستوى المضمون المُنتج عن طريق شركة يوسف شاهين.في مستهلّ القرن الجديد، تحديداً عام 2000، ظهرت تجربتان مختلفتان:الأولى "فيلم ثقافي" لمحمد أمين، بالنظام التقليدي للإنتاج، لكنّه مزج بين الكوميديا والموضوع الجدّي، وتخلّى عن نجوم الشباك الكبار ونجوم الكوميديا الجدد، الذين رفعوا أجورهم عالياً بعد "إسماعيلية رايح جاي". اتّبع أمين أسلوباً مغايراً غير تقليدي في الدعاية لفيلمه، إذْ ذهب إلى المصانع والجامعات والشوارع، واعتمد على الدعاية الشفهية، قبل عصر السوشيال ميديا.الفيلم كوميدي، ولا شيء لافتاً أو استعراضياً في الإخراج. البطل الرئيسي، حتى في الأفلام التالية لأمين، يتمثّل بالسيناريو الذي يناقش، بوعي شديد وسخرية لاذعة وأحياناً سوداء، أزمة الشباب والمشاكل الحياتية التي يعيشونها، وعدم قدرتهم على الزواج بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة، فيشاهدون أفلاماً إباحية، "ثقافية"، للهروب من واقعهم.حقّق الفيلم نجاحاً كبيراً، نقدياً وجماهيرياً، فشكّل انطلاقة لمخرجه، خاصة في الكتابة، مع موهبةٍ تعتمد أساساً على كوميديا الموقف من التناقض بين أحوال الناس وهمومهم، والوضع السياسي والغزو الأميركي في العالم العربي: "ليلة سقوط بغداد" (2005)، و"فبراير الأسود" (2013)، باستثناء "بنتين من مصر" (2010)، المنسوج بشاعرية وصدق كبيرين، لكنّه قاتمٌ إلى درجة مقبضة. لا يكتفي بمشكلة العنوسة وتخطّي الفتيات سنّ الزواج، إذْ لامس أيضاً قضايا الفساد، والرغبة المحمومة في الهجرة هرباً من الوضع الخانق.أخرج أمين أفلاماً لكتّاب آخرين، لكنّها لم تكن في مستوى النصوص التي كتبها بنفسه. ربما لذلك لجأ إليه بعض "المُضحكين الجُدد" في السينما التجارية السائدة ليكتب لهم، فيمنح السيناريو مذاقاً من السخرية اللاذعة والكوميديا الجاذبة للجمهور.التجربة الثانية تمّت عبر تقنية الديجيتال: "حبة سكر" لحاتم فريد، التي تُعدّ إرهاصة بمولد سينما مستقلة جديدة في مصر، إذْ أثارت أملاً في شباب آخرين. قبلها بسنتين، خاض يسري نصر الله تجربة التصوير بالديجيتال في "المدينة". لكنّ أهمية تجربة فريد أنّه لم يكن مدعوماً من شاهين (على عكس نصر الله)، فقرّر التغلّب على العوائق الإنتاجية والإفلات من الحلقة الجهنمية للإنتاج السينمائي، فباع سيارته للإنفاق على إيجار معدات التصوير، واشترك أصدقاؤه في التمثيل من دون أجور، وساهمت أسرته في أعمال إنتاجية وفنية. لكنّه لم ينجح في توفير كلفة تحويله إلى 35 مم.مع ذلك، فتحت تجربته باباً للتمرّد، وربما كانت سبباً لتصوير إبراهيم البطوط، العائد إلى مصر عام 2004، والذي اعتُبر الأب الروحي للسينما المستقلة، أفلامه الأولى بتقنية الديجيتال: "إيثاكي" (2006)، و"عين شمس" (2009)، الذي ساعده الناقد الراحل سمير فريد في تحويله إلى 35 ملم عبر "المركز السينمائي المغربي". يُحسَب للبطوط دخوله في معركة حامية مع الرقابة، ليحصل فيلمه على الجنسية المصرية، عبر تغيير وإلغاء أحد بنود قانون الرقابة على المصنّفات الفنية: البند الخاص بضرورة حصول السيناريو على موافقة الرقابة قبل التصوير. هذه خطوة لو قُدِّر لها النجاح، لفتحت ثغرةً يَعبر منها عدد ليس قليلاً من صُنّاع سينما الديجيتال.انتصر البطوط للفنّ فقير الإمكانات، المُعبّر عن الواقع. حاول الخروج من آليات السوق السينمائية التجارية، وقاوم الظروف الإنتاجية الخانقة وملابساتها، وسيطرة النجوم وأجورهم الفلكية. نجاحه هذا شجّع كثيرين، وكان حديث الوسط السينمائي والثقافي، فظهر "هليوبوليس" (2009)، أول روائي طويل للمخرج القادم من المونتاج أحمد عبد الله السيد، والبعض اعتبر أنّ الثاني خارج من عباءة الأول. تفوّق الفيلم أساساً في البناء المحكم للسيناريو، الذي كتبه عبد الله السيد (جائزة ساويرس للسيناريو، 2007)، وفي قدرته على ضبط الزمن النفسي لأبطاله، وتحقيق الصدق الفني والنفسي.ينتمي الفيلمان إلى السينما المستقلة، ويعتمدان على أسلوب إنتاجي فقير، لكنّهما مختلفان فنياً تماماً، شكلاً ومضموناً، حتى أنّ في كل واحد منهما جزءاً توثيقياً، وإنْ حمل أحدهما اسم حي عين شمس، والثاني اسم ضاحية هليوبوليس، أو مصر الجديدة. يعتمد "هليوبوليس" أساساً على لغة السينما، أي الصورة. لم يحك كلّ شيء عن شخصياته، مكتفياً بالسماح بمراقبتها والتلصّص عليها مواربة. هذا ليس فيلماً يبحث عن الزمن الضائع، بل يُكثّف بوضوح نتائج هذا الزمن الضائع، أو بتعبير مخرجه: "ليس فيلماً عمّا يحدث بل عمّا لا يحدث".اعتمد "عين شمس" على الحوار الطويل، والتعليق الصوتي للراوي. تجارب البطوط اللاحقة مختلفة، من دون التخلّي عن الاهتمام الكبير بجماليات الصورة، وتأطير كوادر شديدة الجمالية البصرية. لم تعتمد أفلامه على البناء التقليدي للحبكة، وليس هناك سيناريو مكتوب، بل ست ـ تسع صفحات فقط. هذا الأسلوب المميّز له وحده من دون غيره، فهو يرسم شخصيات لها ملامح عامة في ذهنه. تجاربه تتغذّى من أرواح الممثلين وشخصياتهم، وتقترب من روح الارتجال، وفيها قدر كبير من المخاطرة، إنْ لم يكن ذهن المخرج حاضراً بشكل مستمر. كذلك اعتمد على ممثلين ليسوا نجوم شباك، يعملون من دون أجور أو يشاركونه الإنتاج، وممثلين هواة، وأصدقاء له، ووالده ذات مرّة.سلاسة أسلوب البطوط في عدم استغراق وقت في كتابة السيناريو وفي التصوير، أتاحت التفاف معاونين كُثر حوله، يتدرّبون معه ويساعدونه، ربما لأنّه يمنحهم الشعور بأنّهم أصحاب الفيلم، فكان محاطاً دائماً بأناسٍ متفانين، ما يُفسّر سرعة استجابته للثورة المصرية عام 2011، إذْ كان الأغزر إنتاجاً، بإنجازه ثلاثة أفلام، أبرزها "الشتا اللي فات" (2012)، أحد أجمل الأفلام المصنوعة في فترة الثورة. صحيح أنّ زمنه يبدأ في "25 يناير" (لحظة بدء الثورة)، وينتهي بعد تنحي حسني مبارك، فيتردّد صدى الثورة في مشاهد مختلفة، لكنّه مع ذلك ليس فيلماً عنها، لأنّه لا يحكي عنها بقدر ما يكشف أحد دوافع قيامها. تدور الأحداث بين شتاء الحاضر وآخر في ماضٍ قريب. يخرج عمرو (عمرو واكد)، من المعتقل، فيكتشف أنْ والدته توفّيت. يُراوح السرد بين الشتائين، ذهاباً وإياباً. ردود الفعل المتباينة إزاء الحاضر الثوري تظهر غالبيتها في عينيه القلقتين والمتوجستين والحذرتين، وبعيون آخرين ذوي صلة به، قريبة أو بعيدة. تستدعي ذاكرة الماضي فيه التعذيب بعد القبض عليه في مظاهرات تُندّد بالعدوان الإسرائيلي على غزّة. مشاهد مشحونة بالتوتر، وبعيدة عن المبالغة الدرامية، وهناك أشكال من التعذيب والقمع، كأداتين للسيطرة على الإنسان.يبدو الفيلم بسيطاً، لكنّه مُشبع بتفاصيل إنسانية كثيرة منحته صدقية، خاصة في العلاقات بين الناس: عمرو وجارته، الضابط وزوجته وأطفاله، في مشاهد اللجان الشعبية. مشهد بكاء عمرو عند دخوله غرفة والدته بعد وفاتها، كأنّه يبكيها ويبكي نفسه. أُنتج الفيلم بالتعاون بين البطوط وواكد وصلاح حنفي، وجه تمثيلي جديد.لأحمد عبد الله السيد أيضاً مساهمته في أعقاب الثورة: "فرش وغطا" (2013). لكنّه عانى مشكلة تقنية في تنفيذ الصوت بالشكل الدرامي المناسب، فكان هذا سبباً لهجوم نقدي قاسٍ. مع ذلك، واصل عمله، فقدّم ستة أفلام، بينما اختفى البطوط بشكل مُثير للحيرة، تاركاً مكانه شاغراً. كذلك فعل تامر السعيد، صديقه ورفيق مشواره، بعد "آخر أيام المدينة" (2016)، الذي أنتجه بنفسه وبالتعاون مع خالد عبد الله، مؤدّي الشخصية الرئيسية فيه. عُرض الفيلم في "فوروم" الدورة الـ66 (11 ـ 21 فبراير/ شباط 2016) لـ"مهرجان برلين السينمائي".ظاهرياً، يبدو عبد الله صاحب الدور الأول، لكنّه حقيقةً يربط الخيوط كلّها معاً في فيلمٍ يمزج الوثائقي بالروائي. عبره، نعيش ترنيمة شجيَّة لمدينة تحتضر، بلغة بصرية ومشهدية سينمائية شديدة الخصوصية، تشهدان على حقبة فسادٍ وانحدار. فهناك ذاكرة خائنة مرصّعة بالثقوب، وجسد يحتضر، وروح تعاني الفقدان والألم، وعشّاق خائبون، وتصوير لوضع المرأة المُهانة التي تضرب بقسوة، وبيوت عتيقة تُهدَم، وسماسرة عقارات كذّابون، وتيار جديد يتدثّر بعباءة الدين ويتزايد وينتشر كالوباء في المدينة، وشحّاذون ومُشرّدون متناثرون (بشكلٍ غير فَجّ، بل طبيعي جداً وتلقائي) بين البشر المتزاحمين في شوارع وسط المدينة، وسياسيون فاسدون، ورجال يسيطرون على الحكم، ويُلهُون الشعب بنشاطات ومباريات كرة القدم، التي يرعاها الرئيس مبارك ونجله ويُشجّعانها. هناك أيضاً حريق مسرح بني سويف، الذي التهم أرواح مبدعين عديدين، وتظاهرات احتجاجية تعبيراً عن حالة تمرّد ضد حكم مبارك والتوريث، وضد الفساد المعشِّش في المدينة، ينخر في بنيتها حتّى بدت كأنّها تعيش آخر أيامها.مُنع "آخر أيام المدينة" من العرض في مصر، وحُرم تامر من إخراج أفلام أخرى في بلده، وتوارت شعلة كان يحملها الثنائي البطوط والسعيد. صحيحٌ أنّ آخرين ظهروا، لكنْ لم ولن يُعوّض مكانتهما أحد، خاصة مع إضافة هالة لطفي إليهما، التي شكّلت الضلع الثالث: عام 2005، أخرجت وثائقيّها الطويل "عن الشعور بالبرودة"، بعد عامين من التصوير والمونتاج، والإنتاج لـ"المركز القومي للسينما"، أي الدولة. يحكي عن صداقات وعلاقات مزدوجة بين فتيات وفتيان، وبين رجل وامرأة، في مجتمعٍ ظاهره عفّة وطهارة، وباطنه يعاني كافة أشكال الفساد. وهذا عبر تسع فتيات يحكين للمرّة الأولى عن شجون الحياة الشخصية بلا شريك، ومئات علامات الاستفهام عن علاقة الرجل بالمرأة. الاشتغالات البصرية ممهورة بالرمزية والدلالات السينمائية الهامسة والقوية في آنٍ واحد.بعده بسبعة أعوام، أنجزت لطفي أول فيلم طويل لها (إخراجاً وتأليفاً) بعنوان "الخروج للنهار" (2012)، الذي ينتهج لغة سينمائية مقتصدة لا تخلو من دلالات رمزية، مصحوبة بجرأة قوية في الاعتماد على إيقاع متمهّل، وقليل جداً من الحوارات، يُعوّضه صخب المكان القابض على روح البطلة. حصد الفيلم جوائز عدّة، واحتفى به النقاد، وأدرج في لائحة أهم مئة فيلم في تاريخ السينما العربية، في استفتاء "مهرجان دبي السينمائي" (2013). أمّا سيناريو الفيلم الثاني لها، الذي أنهته عام 2017، فلا يزال في الدُرْج لأسباب رقابية. ولطفي لم تعد تريد إخراج إلّا ما تقتنع به، فقرّرت تأجيل حلم الإخراج إلى أنْ تتغيّر الظروف الرقابية، وباتت تُنتج أفلام آخرين.هناك أيضاً "ريش" (2021)، لعمر الزهيري، المنتمي إلى المدرسة السابقة في التقشّف، مع ممثلين هواة أو غير محترفين. فيلمه هذا نالت منه أيضاً أشواك مُدّعي الفضيلة، الملكيّين أكثر من الملك، فمُنع عرضه، ومنع أي حديث عنه أو إشارة إليه في القنوات الرسمية، لدفنه. ففي نظر البعض، يُسيء الفيلم إلى مصر. لماذا؟ لأنّ البطلة امرأة مُستَعَبدة من زوجها، تطيعه بصمت، حتّى تحوّل بفعل ساحر إلى دجاجة، فاضطرّت المرأة للعمل وكسب رزقها، وحماية نفسها وأولادها. سعت إلى علاج الدجاجة، واستعادة زوجها، لكنّها أدركت أنّه صار عبئاً، وحياتها أفضل من دونه، فتذبحه. الفيلم متأثّر برواية "المسخ" (1915)، لفرانتز كافكا، وتدور في إطار الكوميديا السوداء.لا شَكّ أنّ للمرأة المخرجة وجوداً مُتوقّعاً له أنْ يكون أقوى لو سارت عجلة الإنتاج والحرية كما كانت عليه قبل الثورة. هناك مخرجات جديدات، لكنّ السؤال: "ماذا يُقدّمن؟". ففي أعقاب الثورة، ظهرت تجارب بتوقيع نساء، بينهنّ أيتن أمين، التي شاركت في "التحرير 2011: الكيب والشرس والسياسي" (2011)، مع تامر عزت وعمرو سلامة. غير أنّ بصمتها الأقوى ظهرت في "فيلا 69" (2013)، رغم أهمية "سعاد" (2020). لكنّها انحازت إلى التجاري في فيلمها الأخير "آل شنب" (2023). أمّا نادين خان، فغيابها عن السينما يطرح علامة استفهام وتساؤلاً مُلحّاً: لماذا اتّجهت إلى المسلسلات، بعد تقديم نفسها مخرجة سينمائية بانطلاقة قوية عام 2012، مع "هرج ومرج"، الذي حقّق المُعادلة الصعبة في الجمع بين إعجاب الجمهور والنقّاد، بأسلوب مغاير في السرد، كأنّها تتمرّد على أجيال. لكنّها لم تُقدّم تجربتها السينمائية الثانية إلّا بعد عقد كامل، بإنجازها "أبو صدام" (2021)، الذي يُشكّل تجربة مهمّة في تعرية المجتمع الذكوري. والفيلم يبدو كأنّه مُصوّر في ليلة واحدة."هناك شيء ما يتحرّك في رحم هذا البلد". لا أتذكّر قائلها، لكنّي أشعر أنّها تنطبق بقوّة على السنوات القليلة السابقة على "ثورة 2011"، وحالة الزخم في الإنتاج مُقارنةً بما بعد الثورة، خاصة بعد سنتين أو ثلاث سنوات فقط. قبل الثورة، كأنّ البلد "حامل" بأفكار وأحلام وتمرّد.