أحمد محمود أحمدمدخلضمن منظور عام يمكن الإشارة الي أن تيار الإسلام السياسي قد عرفته المنطقة العربية منذ أزمنة بعيدة ، وقد شهدت هذه المنطقة التجسيد الحي لممارسة هذا التيار للعنف والأقصاء، وقد اكتسب الصراع الذي قاده هذا التيار مبدأ القداسة والتدنيس حيث بقي الذين خارجه منظور إليهم ضمن خارطة التدنيس، وبالتالي وقع العنف عليهم وفقا للتصور الديني المختل معرفيا.. و الملاحظ ان هذا التيار لم يصعد للحكم في البلدان الأخري وبالكيفية التي حدثت في السودان حيث تمكن هذا التيار من الأنقلاب علي حكومة ديمقراطية في عام ١٩٨٩، ومن هنا يمكن القول ان تجربة هذا التيار قد انتقلت من دائرة العنف الي دائرة التدمير حيث تم تدمير السودان كلية سواء اثناء حكم هذا التيار له أو عبر مسار هذه الحرب الحالية والتي زرع بذورها هذا التيار منذ فترة طويلة ويقودها حاليا، مما يحٌول التجربة السودانية الي نموذج يجب الإستفادة منه في معرفة وطبيعة هذا التيار حتي لا تتكرر هذه التجربة في منطقة أخري..محاور الكتابةيتحدد هذا المقال عبر ثلاثة محاور تحاول الإجابة علي السؤال المطروح عبر عنوانه و المرتبط باستفهام حول لماذا وكيف دمرت الحركة (الإسلامية) السودان؟ حيث يتحدد المحور الأول عبر قراءة العقل الايدولوجي المغلق و اختبار طبيعته و ماهيته، اما المحور الثاني فسوف يختبر التجسيد الحي لطبيعة هذا العقل علي أرض الواقع و سوقه نحو التدمير، و يختبر المحور الأخير المخرج الممكن من مأزق التدمير و كيفية الخروج من دائرة هذا العقل المغلق والمستقيل..المحور الأول: ماهية العقل الايدولوجي المغلقيمكن القول و ضمن التجربة السودانية فان تدمير هذا البلد لم يكن نتاج لسوء إدارة الدولة او نتيجة لفعل خارجي، انما حدث هذا لأسباب أكثر عمقا تتصل بما يمكن أن نطلق عليه أداة العقل المحلُق والمنفصل عن الواقع وصيرورته، وهو عقل بالأساس تهويمي منفصل عن الآخر وعن تجربة العالم ككل، ومتعالي وفق المنظور الديني وغير منفتح علي التجارب الإنسانية، وهذا ما يؤدي وبالنتيجة الي تشكل العقل الايدولوجي المغلق حيث لم يتأسس هذا العقل علي رؤية تكتسب وعيها وفق متطلبات العصر ، فهو وبحكم طبيعته لم يكن عقلا للإصلاح والتغيير أو لديه منظور حول فكرة النهوض بالوطن ، انما يمكن أن نطلق عليه العقل الذي قد أستقال عن الأنشباك مع الواقع ومعرفة تناقضاته، وبالتالي فهو ليست لديه القدرة علي ممارسة النقد، لا نقد الذات ولا نقد الواقع ضمن منهج علمي صحيح، وبالتالي فهو عقل دوغمائي في معتقده و غنائمي في ممارساته..كما انه عقل يري الحقيقة الكاملة معه و كل من يخالفه هو بالضرورة خائن أو كافر أو في أحسن الأحوال ضال، عقل مستبد و مختزل، فأختزل السودان كله في تنظيم واحد و أسس لبقاء هذا التنظيم علي حساب مجموع الشعب كله، و بالتالي نظر للسلطة باعتبارها مشروعا للتمكين لا للتنمية و تطوير البلد..من هذه الزاوية يجب طرح السؤال الجوهري وهو: ما الذي ادي الي انزواء الشعارات التي كانت تطرحها الحركة (الإسلامية) صاحبة هذا العقل المغلق ، مثل شعار الايادي المتوضئة التي تحولت لاحقا إلي الأيادي القاتلة و المدمرة؟ و من شعار( لا لدنيا قد عملنا نحن للدين فداء) الي واقع الأنغماس في الدنيا و ترك الدين الي ما ظهر منه في مقولة الله اكبر و المشرعة و المرفوعة في ساحات المعارك ومن أجل التدمير؟ هذه الأسئلة تتصل بطبيعة العقل المغلق والذي حللنا طبيعته سابقا وقد قلنا انه عقل يأتي منفصلا عن العصر ويعيش في عصر آخر، اذ يعكس العصر الراهن حالة القبول بالآخر و تجسيد مضامين الحرية و الأختيار، و العصر الذي ينتمي إليه ذلك العقل هو عصر الغزوات و اخذ حق الغير بالقوة و ان امكن تدميره و يدخل الدين في هذه الحالة كعابر وليس كفعل أصيل حيث يتحول الدين الي فعل الظاهر اما الجوهر فهو مشبع بالشهوات و بالعنف و فكرة تدمير الآخر لأن هذا الآخر يعتبر مهددا لوجود صاحب هذا العقل.. و من هنا يمكن أن نفهم الكيفية التي بدأت بها فكرة تدمير السودان عبر انغلاق عقل الحركة (الإسلامية) ودورانها في الفراغ، وهنا نحاول الإجابة علي سؤال لماذا دمرت الحركة الإسلامية السودان… وبشكل مختصر يمكن القول إن الحركة (الإسلامية) قد دمرت السودان لأنها كانت مغتربة عن الواقع وعندما دخلته أزاحت إمكانية النهوض وأستبدلته بالحفر العكسي نحو التدمير وعبر العقل الذي قلنا انه يجسد طبيعة العقل المغلق، فأغلقت حركة التطور واستبدلتها بالتفكيك وقد بدأ ذلك التفكيك بفصل جنوب السودان و اشعال الحروب في دارفور ومناطق أخرى في السودان… وهكذا فأن سؤال لماذا يكمن في طبيعة العقل المشخص سابقا وهو عقل قد أنبثق خارج الزمان و المكان وجاء ليوقف الزمان ويدمر المكان…والسؤال الجوهري والذي يتصل ب لماذا، هو: لماذا تحاول أن تعود الحركة (الإسلامية) الي السلطة وعبر البندقية بعدما قالت الجماهير السودانية كلمتها المدوية عبر ثورة ديسمبر ٢٠١٨ وهي (كل كوز ندوسو دوس) وبتبيان أكثر تقول الجماهير أنها ستضع اقدامها فوق رأس اي عضو من اعضاء الحركة (الإسلامية) و تدعسه كرمزية لسقوط هذه الحركة، ولهذا أكدت الجماهير حينها اصرارها بشعار آخر هو ( تسقط بس) كرؤية حتمية لقطع الصلة بينها والحركة (الإسلامية)، اذن لماذا تحاول هذه الحركة العودة للسلطة مرة أخرى؟؟؟ والإجابة علي ذلك السؤال تتصل بكون الحركة (الإسلامية) قد أنتقلت في هذه الحالة من العقل المغلق الي العقل العدمي و هو العقل الذي يحاول اعدام الحياة نفسها كما تفعل الحركة (الإسلامية) اليوم في السودان وفي في حربها ضد ميليشيا قد قامت هي بتكوينها و تسليحها في السابق مما يؤكد أن الحركة (الإسلامية) لا تدمر من حولها فحسب فهي تدمر ذاتها كذلك وهذه هي قمة العدمية..هذا فيما يتصل بسؤال لماذا، أما الإجابة عن سؤال كيف تجسد التدمير في السودان وبشكل تاريخي فهو ما نطرحه في المحور التالي لا من أجل معرفة طبيعة التدمير فحسب بل معرفة التدرج فيه..المحور الثاني: التدمير الممنهجاذا استلفنا مفهوم العقل المحض من الفيلسوف كانط و هو العقل الذي لا يقوم علي التجربة الحسية و التي عبرها يطور الأنسان فهمه للواقع إذ يبقي ذلك العقل المحض متعلقا بالمطلق و الهيولي و منفصل تماما عن الواقع ، و عندما يحاول التجريب في هذا الواقع فأنه يصطدم به و يبرز تشنجه و أنفصامه، و لهذا اول ما يلجأ فأنه يلجأ الي شرعنة العنف لأخضاع الواقع..و بالنظر لتجربة الحركة (الإسلامية) في السودان فأنها و بمجرد صعودها للسلطة فقد عملت علي الآتي:١-لم تسع و منذ البداية لبناء دولة بل سعت لبناء سلطة دينية حزبية مستخدمة الدين كغطاء..٢-قامت بتفكيك الاقتصاد و أشتغلت علي توليد الفساد المؤسسي لأنها لا تمتلك رؤية أقتصادية واضحة .٣-مارست سياسة الأرض المحروقة من خلال الفرز الديني و الثقافي، و هو ما أدي لأشتعال الحروب في الجنوب اولا بأسم الجهاد ثم في دارفور من خلال التقسيم العرقي لأهل دارفور..٤- أشتغلت علي تفتيت النسيج الاجتماعي السوداني و إفساد التعليم و الثقافة حيث حولت الطالب الي جندي(جهادي) و المثقف الي بوق للسلطة.٥- عملت الحركة (الإسلامية) علي تكوين المليشيات في بلد ذو طابع قبلي وقامت بتسليحها، وقد كان ذلك تدبير مسبق للحرب الحالية واستنادا لمفهوم تأسيس الفوضي من اجل التفكيك في حالة سقوط نظامها….و هكذا نستطيع أن نقول أن تربة التدمير للواقع السوداني بدأ تطبيقها منذ أن صعدت الحركة (الإسلامية) للسلطة و استخدمت هذه السلطة من أجل تفكيك البلد و علي أسس سياسية و اقتصادية و اجتماعية.. و السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو لماذا فعلت ذلك؟ فهل نتيجة لطبيعة العقل الذي ذكرناه سابقا أم هنالك اسباب أخري؟ و الأجابة علي ذلك فأن الحركة (الإسلامية) و بعقلها المحض و عندما اصطدمت بطرائق إدارة الدولة و اكتشفت ان إدارة الدولة تحتاح الي اكثر من التأطير الديني وخارج شعاراتها المنبثقة عن عقل الشذرات و القائم علي بنية غير متماسكة و غير منشبكة مع الواقع كما أكدنا ذلك سابقا، اقول انها عندما اكتشفت صعوبة قيادة الدولة وخسرت رهانها الديني، فأنها لم تستطع مراجعة مشروعها السياسي وإعادة الدولة الي المجال الديمقراطي الذي دمرته هذه الحركة بالأنقلاب عليه، فحولت الدولة الي سلطة حزبية مظهرها هو الدين وجوهرها هو الفساد و المحسوبية، و قد تم ترك أمر الدولة و تم التركيز علي اعضاء التنظيم، و لأن التركيز كان حول المكسب والنفوذ لا الدور القيادي، فقد انقسم التنظيم نفسه في المفاصلة الشهيرة التي قادها حسن الترابي زعيم الحركة (الإسلامية) في عام ١٩٩٩ ومع هذا لم تتم المراجعة، و واصل من تبقي من التنظيم في السلطة والحكم حتي تعرت الدولة من كل شيء و وصلت الي حالة الانهيار مما ادي ذلك الي ثورة ديسمبر بزخمها المعروف وإخراج الحركة (الإسلامية) من المعادلة السياسية، و قد عادت مرة اخري و عبر الحرب هذه المرة بعقيدة تدمير جديدة مستغلة الجيش و الذي تم تدجينه اثناء حكمها، و الهدف واحد وهو اما أن تعود هي للسلطة لأنه المجال الوحيد الذي يؤمٌن وجودها او حرق السودان كله لأنها لا تريد غيرها من يكون في السلطة اذ حولت السلطة و عبر العقل الايدولوجي المغلق الي طوطم اشبه بطوطم القبيلة و من يقترب من هذا الطوطم فيمكن تدميره ومعه الطوطم نفسه، وهذا هو التحول من العقل المغلق الي العقل العدمي الذي تحدثنا عنه سابقا ، وهي الدائرة التي تقف علي حوافها الحركة (الإسلامية) اليوم، اي دائرة العدم..المحور الثالث: السؤال هو: ما هو المخرج من هذا المأزق الذي اوصلت فيه الحركة (الإسلامية) السودان الي الهاوية؟ الجواب: الخروج من هذا المأزق يتصل بضرورة تجاوز هذا العقل عبر عقلانية سودانية جديدة تستطيع بناء المفاهيم وبشكل جديد ، وذلك عبر مشروع الحداثة والاستنارة حيث المطلوب تأسيس عقلانية سودانية لا ترتهن للمطلقات، بل لديها القدرة علي فهم الواقع السوداني ضمن نسقه المتعدد والمرتبط بتجذير مفهوم دولة المواطنة، و ابعاد الدين عن السياسة والانفتاح علي تجربة العالم ضمن وعي جديد يعي جدلية الحداثة والاصالة بحيث لا نذهب نحو التاريخ دون ادوات لقراءته ولا نذهب للحداثة بأن نكون تابعين للغرب، لكن يجب تأسيس حداثتنا علي التربة المرتبطة بالمكان والزمان السودانيين و دون انغلاق و متجهين نحو العالم بذاتية سودانية موحدة وفق شرط القبول مع نفي تيار العرق و الدين الايدولوجي…The post لماذا وكيف دمرت الحركة(الإسلامية) السودان: قراءة في العقل الايدولوجي المغلق appeared first on صحيفة مداميك.