*حسام هلالي“تعال أحكي لك قصة، فالطريق طويل. الحكايا زاد لا ينقطع”. بهذه العبارات يفتتح السوداني حمور زيادة روايته الرابعة “حادثة عيش السرايا وما يتعلق بها من وقائع مسلية” الصادرة عن “العين” المصرية مطلع العام. محتفيًا كعادته في أعماله السابقة بالحكائية، وشخصيات عالمه المتأرجحة بين الاعتيادية وما فوق المألوف. بكل ما تثيره من فضول لاكتشاف صراع الحياة بوادي النيل، وما يكتنفه من عنف وسخرية وواقعية سحرية.صوت حمور زيادة في روايته الجديدة قد لا يختلف في وضوحه وحدته عن أعماله السابقة. لكن نبرته تتميز هنا في الشكل والمقدار. فكما كان الحال مع الطيب صالح، انطلق خريج تقنية الحاسوب الشاب في بداياته الأدبية من حياة القرية التي حملت اسم جده (حمور) بريف شمال السودان دون تلطيخ سمعتها بتسميتها صراحةً. في حين استلهم بشكل خاص أزقة وميادين مسقط رأسه (أم درمان) عاصمة البلاد التاريخية، لتمتزج القروية والمدنية في أعماله بأطماع السلطة وأساطير شيوخ الصوفية وقصص الغرام. في خضم صراع الفئات المجتمعية المضطهدة -من النساء إلى الرقيق- للنجاة من العنف والتهميش.بدأ حمور زيادة في كتابة القصة القصيرة ونشرها بالصحافة المحلية مع نهاية عقد التسعينات، ومع ظهور المنتديات الإلكترونية واصل في نشر مدوناته، فالكتابة للصحف. إلى أن طرق باب دار الأحمدي خلال زيارة عابرة للقاهرة تاركًا بخجل نسخة من مجموعته القصصية وفقًا لنصيحة أحد أقاربه. لتنشر “سيرة أمدرمانية” عام 2008 كأول كتاب له. قبل أن يؤدي تناوله لحادثة اعتداء جنسي ضد طفلة أثارت الرأي العام إلى التعرض للتحقيق بذريعة “خدش حياء المجتمع”، ومع تعرض منزله للاقتحام والحرق من قبل مجهولين ترك حمور البلاد ليستقر في مصر بشكل دائم. حينئذ تفرغ تمامًا للكتابة.وطوال العقدين التاليين أنجز حمور مجموعتين قصصيتين وثلاث روايات رسخت من حضوره في المشهد الأدبي العربي -والسوداني بالتبعية- بدءًا من نيل “شوق الدرويش” (العين 2014) جائزة نجيب محفوظ للأدب من الجامعة الأمريكية بالقاهرة عام صدورها، ووصولها العام التالي إلى القائمة القصيرة من الجائزة العالمية للرواية العربية، ثم ترشح روايته التالية “الغرق: حكايات القهر والونس” (العين 2018) لكل من جائزتي “معهد العالم العربي” بباريس (2022)، و”لوريانتال” (2023)، وذلك بعد صدور ترجمتها الفرنسية عن “آكت سود” بعنوان “غريقات النيل”.مثلت القضايا الشائكة للمجتمع السوداني هاجسًا لا يمكن تجاهله في أعماله منذ “الكونج” (ميريت 2010)، و”النوم عند قدمي الجبل” (ميريت 2014). خاصة بعد تحويل القصة -التي حملت مجموعته الثانية عنوانها- إلى فيلم “ستموت في العشرين”، وبكل ما أثارته معالجة القصة سينمائيًّا من احتفاء وضجة وجوائز، فقد صبت المزيد من الزيت على “شوق الدرويش” وما فعلته بحفيظة “أنصار المهدي” وثورته الدينية المسلحة ضد الخديوية المصرية في القرن التاسع عشر، في وقت كان مشروع حمور زيادة الأدبي قد نضجت معالمه بالفعل. بميل واضح للواقعية السحرية، وحس نقدي حاد عند تناول التاريخ السياسي المعاصر.وعلى نسق ماكوندو – غابرييل غارثيا ماركيز، وود حامد – الطيب صالح، خرجت من بيوت “حجر نارتي” و”الكونج” و”ساب الزبيرية” شخصيات آسرة تتجاذبها الأُلفة والضجر والكثير من القهر. لتنطلي على القارئ المحلي هذه الجغرافيا المتخيلة، وكأنها بالفعل إحدى محليات الولاية الشمالية. أكبر ولايات السودان مساحةً وأقلها سُكانًا.ومع كل التحولات السامة التي شهدها السودان من قبل الإطاحة بعمر البشير، وما صاحبها من شراكات خشنة بين الجنرالات والساسة. عاد حمور زيادة في محاولة للحاق بما تبقى من بلاده بعد عشر سنوات من المنفى الاختياري، ومثلما لم يعد خلال الفترة الانتقالية الساخنة كما كان عندما رحل (قاصًّا منبوذًا من وسطه المحلي) لم يجد الروائي المرموق البلد الذي عرفه عندما كان مفعمًا بالأمل في التغيير، وبينما تدفق مئات الآلاف من السودانيين لاجئين إلى مصر هربًا من الحرب الجديدة عام 2023. بات استقرار حمور في القاهرة مجددًا كمن رجع إلى بيته الثاني، لكن عودته لمدينة مجده حملت خيبةً أفدح ووجدانًا مأزومًا. انعكسا لزامًا على عمله الجديد الذي لا يشبه ما قبله.في “حادثة عيش السرايا” يبدو حمور أكثر من أي وقت مضى كمن خرج لتصفية حساباته -أدبيًّا- مع العقود الأربعة لسيطرة الحركة الإسلامية على المشهد السياسي وكل أوجه الحياة في بلده. فعلى صعيد الوجدان الفردي، تتبع الرواية مدير مكتب أحد الوزراء السابقين في نظام البشير (يصبغ الراوي عليه صفات تذكر بالمسؤول الأمني الراحل الفاتح عروة). وهو سياسي إسلامي هامشي شق طريقه طوال عقد التسعينات ليتبوأ مكانة مرموقة في النظام الذي سقط تاركًا إياه في العراء، ومع عودته إلى مدينته الريفية وسط السودان يحاول البطل الاختباء من بطش النظام الهجين الجديد. بعد أن تركته زوجته وأبناؤه والوزير الذي خدمه لسنوات هاربين إلى تركيا. منكسرًا مهزومًا وحانقًا على الجميع. إحساس يدركه حمور بالضرورة، وإنْ من الجانب الآخر من المعادلة.لا تخفى الدلالات السياسية المباشرة على القارئ المحلي ما إن يمسك بالكتاب متفحصًا غلافه. ليجد لوحة مميزة لعجوز سودانية تحمل قِدرًا أحمر. استعان الكاتب على تصميمها بالفنانة آلاء ساتر، وهي اسم بارز بين رسامي الجداريات منذ اعتصام القيادة العامة في الخرطوم عام 2019، والتي استُحضرت إحدى رسوماتها المعروفة داخل السرد بصورة مثيرة لامتعاض الراوي حين يصفها: “صورة لامرأة قبيحة الشكل بقرطين ذهبيين ضخمين ترفع مفراكة كتب عليها (المرأة مكانها المقاومة)”.وعبر فصلها الوحيد يجابه بطل “حادثة عيش السرايا” نظرات اللوم والشماتة من أبناء مدينته المفعمين بشعارات الثورة، بينما تطارده أشباح الماضي متمثلةً في مجنون البلدة الذي سبق للبطل أن وشى به لرجال الأمن في شبابه حتى خرج من تحت التعذيب مُدّعيًا الألوهية. ليقابلنا الوجدان الجماعي مع سرد التغييرات السياسية المتسارعة منذ توقيع اتفاق الشراكة بين الجيش وقوات الدعم السريع من جانب، وبين أحزاب (قوى الحرية والتغيير) من ناحية أخرى في أغسطس 2019 (حكومة عبدالله حمدوك)، ولكن من وجهة نظر الراوي: أي الطرف المنبوذ من السلطة الجديدة الهشة.هنا تحديدًا تبرز الاختلافات الجوهرية بالعمل المنشور في 145 صفحة من القطع المتوسط في مقابل أعمال حمور الأخرى. ففضلًا عن قِصَرها النسبي الذي يحيلها لقالب الرواية القصيرة (نوفيلا)، تبتعد “حادثة عيش السرايا” في ضمير السرد عن نمط الراوي العليم الذي درج على استخدامه، وهو إذ يلجأ إلى ضمير المتكلم هنا فقد تقمص في راويه خطاب غريمه السياسي ونظرته الساخطة على أحداث الثورة السودانية وما تلاها من تحولات. بلُغة تراثية / معاصرة لا يغيب عن نَفَسِها الساخر قدر كبير من الكوميديا السوداء. تتبدّى بوضوح في الدونكيخوتية المأزومة لبطلها الذي استغل حمور رحلته وطريقة سرده لها ليحول مجمل الرواية إلى محاكاة ساخرة. استخدم فيها خطاب أنصار الرئيس المخلوع لكشف مواطن الضعف الإنساني لدى رجال السلطة. خاصة عند خسارتهم لمناصبها.وعلى الرغم من انكساره، ولحظات الخزي والقلق المسيطرة على حالته المزاجية الكارهة لكل ما حوله (إلا حين توضع أمامه أطباق الطعام) يتحول الراوي إلى شهرزاد ذكورية لا تجد سلواها إلا في استعراض أمجاد الماضي، والسيَر المخزية لبنات وأبناء مدينته التي تتماشى مع شماتته المرة في سلطة الحاضر.وبحيلة سردية بسيطة تتحول “حادثة عيش السرايا” إلى قصة واحدة رئيسية يرويها البطل لشخصية غامضة تتماهى في البداية مع القارئ المذكر. سرعان ما يتضح أنها سائق يقوده بالسيارة عائدًا إلى العاصمة بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021. عندما أطاح العسكر (الجيش والدعم السريع معًا) بشركائهم من المدنيين المناوئين للنظام السابق. ما يعيد البطل هو وزملاءَه من أعضاء حزب المؤتمر الوطني المحلول إلى بؤرة الاهتمام. في محاولة يائسة للعودة إلى الحكم.طوال الرواية تتدفق سيرة حياة البطل على القارئ (أو السائق) في سرد متواصل دون فواصل. لا يخلو من عملية مونتاج سلسة تمزج الشخصي بالعام والحاضر بالماضي. عبر خطاب تتشابك فيه مرارة الحنين لأمجاد الأمس القريب مع العزيمة والتآمر لاستعادة المستقبل. مستثنيًا من ذلك شخصيات (الآخر) في المدينة. التي لا يرتبط الماضي معها إلا بالفضائح والرذائل، وهنا تخرج للقارئ “الوقائع المسلية” التي صاحبت أو سبقت عودة البطل إلى مدينته الريفية خلال فترة وزارة عبدالله حمدوك، وما وازاها من شارع ملتهب يسعى لتطبيق جذري لشعارات الثورة (كارثة ديسمبر وفقًا للراوي)، مع الإجراءات الاستثنائية لجائحة “كوفيد 19” (مؤامرة الكورونا)، وبالطبع تقاطعات العلاقة مع مسقط الرأس وشخصياته الملبوسة بالعَتَه والارتباك وسط حقبة مشحونة بالأحداث. تعيشها شخصيات العمل من هامشها السلبي غير المشارك في صنعها.تتلاشى الأسماء من شخصيات “حادثة عيش السرايا” بتعتيم متعمد. أو كما كتب حمور: “جلسنا وكل واحد فينا يعرّف نفسه، ليس باسمه ولكن بروابطه الأسرية. تموت هنا الأسماء والمهن والنجاحات”، فالبطل هو الأنا في ضمير المتكلم الذي يروي الأحداث فقط من وجهة نظره، ومُؤويه في بيت العائلة هو “شقيقي”، ومضيفته التي تعد له ما لذ وطاب دون أن يشفع لها ذلك بأن تستمع للموسيقى هي “زوجة شقيقي” غير المحجبة، والفتى الثوري الذي يتورط معه في حرب باردة هو “ابن شقيقي” الذي لا يرى في عمه سوى غريم يستحق العقاب.وعلى المنوال ذاته تتوالى الحكايات الفرعية “للإمام المنافق” مدخن الشيشة الذي ورث منبر المسجد عن آبائه بخطب جاهزة، وشخصيات عديدة أخرى توصف فقط بمهنها: كالوزير (الهارب إلى اسطنبول) والضابط (المتقاعد قبل سقوط النظام) ورئيس اللجنة الشعبية (الغارق في الريبة)، وآخرين يكتفي الراوي بنعتهم مستخدمًا صفات بعينها: كالمجنون. إضافة إلى صديق طفولته الذي اختلف معه في الانتماء السياسي فصعد بدلًا عنه في الحكومة الانتقالية كبقية أعدائه: “عديقي”.وباستثناء الشخصيات المعروفة كحسني مبارك، وأسامة بن لادن، ومحمود درويش، وجيانا عيد. يختفي اسم العَلَم، كذلك عند ذكر الأماكن إلا فيما ندر، فنجد “العاصمة”، و”قريتنا”. في حين تدور الأحداث الرئيسية في موطن الراوي الذي يكتفي بوصفه بـ”مدينتنا”. ساردًا تاريخًا موجزًا لنشأتها خلال سنوات الاستعمار البريطاني كمشروع زراعي. احتوت بموجبه على محطة صغيرة للبواخر النهرية، ومصنع للمياه الغازية بعد الاستقلال. مدينة سودانية خيالية يسهل التعرف على ملامحها في مدن ككوستي (ولاية النيل الأبيض)، ولكن حمور يصر على إخراج شخصيات روايته ومواقعها دون ذكر أسماء. كأنما يعترف ضمنًا أنه يقتحم جغرافيا محلية مغايرة لما اعتاد عليه في أعماله، أو لأنها ببساطة تصلح لأن تكون مجازًا للسودان ككل.من هنا تتضح علاقة الراوي الملتبسة بموطنه وأناسه، فتارة يجد في حاضرها مثارًا للاعتزاز بحزبه: “هذه المدينة أحييناها نحن. لولانا لظلت مدينة ريفية ميتة. […] تركها الاحتلال مزدهرة فذبلت حتى أتاها غيثنا، فاهتزت وربت”، فيما تنفضح هزيمته عند التعرض للمزاج السياسي لأهلها تارة أخرى. في إسقاط على وضع السودان ككل بعد الثورة، أو كما يقول: “لم تظهر مدينتنا في الأخبار. لا يهتم أحد بمدينة ريفية صغيرة. حتى قوائم ما أسموه “دفتر الحضور الثوري” لم تذكر مدينتنا. مدينة مجهولة في بلاد منسية”.تتجلى خيبة انكشاف الوهم والعيش طي النسيان أكثر ما يكون في شخصية العمة العجوز التي تعيش بمفردها في القرية المجاورة. امرأة انتبهت أسرتها مبكرًا لتأخرها عن سن الزواج على عكس أشقائها وشقيقاتها، فما كان منهم إلا أن أخذوها لمقابلة فكي (شيخ يمتهن السحر) بغرض البحث عن علاج للعنوسة. ليكتشف الجميع أن للعمة عشيقًا سريًّا تعيش معه قصة حب من طرف واحد. سارعت لكتابة “حجاب” بغرض جلبه إلى قريتها النائية دون جدوى. لا لشيء إلا لأن خطيبها الوهمي هو الممثل الفرنسي آلن ديلون.استصغار الذات ورفض الواقع بعد انهيار اليوتوبيا ليسا فقط ما يصبغ “حادثة عيش السرايا”، فقد برع حمور زيادة في استحضار العديد من الظواهر الاجتماعية المعاصرة التي يسهل على أي إنسان من الجنوب العالمي رؤية مجتمعه فيها. ناهيك عن السرديات السائدة ووسائل تناقلها الأعمى، التي تجلت في شعارات من قبيل: “نحن أمة رسالية يتربص بنا الأعداء من كل مكان”. في مقابل: “القنوات العربية العميلة”، و”ترهات يؤمن بها أهل مدينتنا [التي] كتب عنها شخص ما على مواقع التواصل الاجتماعي فتناقل الناس منشوره بلا تحفظ”.أما الانسياق إلى الحكي وتناسله داخل الحكاية الأصلية نفسها، فهي الخصلة التي لا يتوقف حمور عن ميله للاحتفاء بها منذ مطلع الرواية وطوال صفحاتها. في مواصلة لما دأب عليه خاصة في ثنائية “الكونج” و”الغرق”. حيث تميل الشخصيات القروية المنسية بعيدًا عن بؤرة الأحداث ومصنعها إلى خلق أسطورتها الذاتية الخاصة وتلميع سرديتها. مستبدلةً ضعف شبكات الاتصال وخطوط الكهرباء بالحكايات المتوارثة والمرويات الشفهية. مع نهم زائد لالتهام النميمة والشائعات. فلا يأتي الراوي على ذكر حدث بعينه، إلا ويقفز منه إلى فقرات اعتراضية “مسلية” مستحضرًا شجرةَ عائلةِ شخصيةٍ ما. لسرد غرائب سيرتها، وسبر أغوار أسرارها. كأنما يكتب النص بروابط تشعيبية تنهض الهوامش فيها لتحتل حصتها من المتن.وعلى النسق ذاته تبرز شخصية بعينها كغريم للبطل. يمثل ظهورها المفاجئ بعد الصفحات الأولى الحدث التحريضي لمجريات القصة (inciting incident)، هي شخصية شاب ثوري آخر ظل يترصد البطل بالهتافات المناوئة للإسلاميين منذ عودته للمدينة. سرعان ما ألصق الراوي به اسم إبليس: “بشعره الثائر، وهزاله المزعج للناظر. لكنه ككل صبي في عمره يحسب أنه قادر على تغيير العالم. في عينيه قوة وتحدٍّ زرعهما فيه ضعف الإسلاميين، ضعفنا، وتعملق قوة الفوضويين. أتباع الشيطان والماركسية والقومية والغرب”.فبعد صلاة الجمعة ينهض “إبليس” خطيبًا في المُصلين، ليردد شعارات الثورة مستنهضًا همة الأهالي لمواصلة النضال لتحقيقها. في استعادة لمشهد وثقه الإنترنت ليلتصق بالذاكرة الشعبية عندما هتف الناشط هشام النور ضد الشيخ عبد الحي يوسف، إمام أحد مساجد الخرطوم والمؤيد للبشير، ولكن بدلًا من الاكتفاء بالمخاطبة السياسية والأناشيد الثورية يفند “إبليس” الرواية خصال مدينتها ليصفها بأنها في قلب الثورة، ومهد الحضارة حيث التقى آدم بحواء بعد هبوطهما من الجنة، ووُلد أول عميد لكلية الهندسة بجامعة أم درمان الإسلامية… الخ. لكن ما يحرك مجريات القصة لاحقًا هو قوله: “لدينا بكل فخر أول امرأة تصنع حلوى عيش السرايا في كل المنطقة”.ورغم كل ما يحيط بالدولة والمدينة الريفية من صراعات سياسية مشحونة ومخاوف حيال المستقبل. لا تنفجر الفتنة بين الأهالي إلا بذكر صانعة عيش السرايا والاختلاف حول هويتها. حيث اختص “إبليس” بها أم خطيبته. مؤججًا نزاعًا قديمًا بينها وبين أختها التوأم. نتيجة زواج إحداهما برجل كان قد تقدم أصلًا لخطبة الشقيقة الأخرى.أما حادثة عيش السرايا نفسها فلا تقل فكاهة ورمزية. في التسعينيات زار الرئيس عمر البشير المدينة بعد انقلابه بفترة وجيزة. يستعيد الراوي مشاركته بين الحشود التي خرجت لاستقباله بالهتاف دون أن يكون عضوًا في لجنة الضيافة بحكم حداثة سنه داخل التنظيم الحاكم، وخلف الأبواب المغلقة حضرت التوأمان (يميزهما حمور بـ”الحاجة” و”التومة”) مقترحتين تقديم حلوى لم تعرفها المنطقة من قبل احتفاءً بزيارة الرئيس الجديد وقتها، والتي انتهت بإعلان لن ينفذ لتفويج مائة ألف مجاهد، ووعد لن يتم بشق طريق رابط بالعاصمة، وتناولَ البشير عيش السرايا بنهم وإعجاب. الحادثة التي ستورط البطل بعد فتنة الأختين في عضوية “اللجنة الأهلية لتقصي حلوى عيش السرايا” كما يسميها ساخرًا. بوصفه شاهد عيان لم ينجح كالجميع في الفرز بين التوأمين. بصورة تدفعه لرثاء نفسه حين يقول: “تنتهي تجربة الحكم الإسلامي بالتوسط بين توأمين تكرهان بعضهما”. تسعى كل منهما لنيل شرف صناعة حلوى لا يذكر مذاقها أحد.وكما تصاعدت نبرة النقد السياسي في أعمال حمور زيادة تدريجيًّا من “الكونج” بخجل، ثم بشكل صريح في “الغرق” اللاعبة على وتر صراعات الطائفية السياسية طوال القرن العشرين. يُسخّر حمور بطله للابتعاد عن الملحمية التاريخية لـ”شوق الدرويش” مورطًا إياه في كوميديا سياسية معاصرة. وبدلًا من الإشارات الخجولة “للحزب الحاكم”، أو استعارة أسماء خيالية للزعامات التقليدية المنتمية لأحزاب معروفة، تستحضر “حادثة عيش السرايا” الرئيس البشير نفسه كشخصية هزلية. مرددةً على لسان البطل شعارات حزبه بكثير من الاعتزاز الفارغ: “نحن ثورة الإنقاذ الوطني. المشروع الحضاري. الحركة الإسلامية التي أتت لتنقذ البلاد والعباد […] فمن أنتم؟”، في مقابل استهجان الراوي لشعارات ثورة ديسمبر. توثيقًا لمرحلتين ماثلتين في وجدان السودانيين بكثير من الأسى والخيبة حتى بين أنصارهما.تبرز أقصى تجليات الرواية في مجازها الضمني المتمثل في توأم “عيش السرايا” الذي يصفه حمور: “لا يميز بينهما شيء. حتى الدم الذي لوثهما خارجتين من رحم أمهما، قسم عليهما بالتساوي. تصرخان في نفس الوقت. كأنك تنظر إلى نسختين من ذات الصورة. لكن أمهما هي من بدأت ببذر الكراهية بين الأختين”. صراع أخويّ حام حول سردية تافهة. يسهل إسقاطه على الصراع الأكبر الذي انشغلت المدينة الريفية عنه. حتى تحول إلى حرب شاملة بين جنرالين من القوات المسلحة وقوات الدعم السريع حول من يملك شرعية “صنع الحلوى”. التوأمان المتناحران منذ خروجهما من “رحم” نظام البشير.في هذا الإطار الموضوعي يحقق حمور زيادة ما لم ينجح فيه قبل أكثر من عقد، فعندما باتت “العين” ناشره العربي الوحيد. أعادت الدار طبع “النوم عند قدمي الجبل” عام 2020 بعد حذفه لقصتين. تخلص بينهما من نص “البهو وما ملك الشعب” الذي تخيل فيه لجوء ثلاثة زعماء مخلوعين للعيش في القصر نفسه بدولة خليجية ما. في استجابة وجدانية منه لأحداث الربيع العربي لم ترتقِ لمصداقية نصوصه الواقعية الأخرى وبِناها القصصية المحكمة. لكنه يغامر اليوم في “حادثة عيش السرايا” بقرار واعٍ وتجربة أنضج، لتناول وقائع ما جرى في حقبة سياسية قريبة -بسخرية مريرة وإيقاع أسرع- دون أن ينتظر انقضاء المزيد من الوقت. حيث عجلت الحرب من تحويل الثورة ضد نظام البشير ثم الانقلاب عليها إلى حقب سياسية آفلة. لا بحسابات الزمن بل بفداحة العنف واتساع رقعته غير المسبوقة في تاريخ السودان الزاخر بالتناحر “بين الإخوان”.كاتب من السودان_____________________________________نشر هذا المقال في موقع ميغازين الإلكتروني الحديث في يوم 3 يوليو 2025 علي الرابط التالي:https://megazine.ultrasawt.com/%D9%83%D8%AA%D8%A8-%D9%88%D9%83%D8%AA%D9%91%D8%A7%D8%A8/%D8%AD%D8%A7%D8%AF%D8%AB%D8%A9-%D8%B9%D9%8A%D8%B4-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D9%8A%D8%A7-%D9%84%D8%AD%D9%85%D9%88%D8%B1-%D8%B2%D9%8A%D8%A7%D8%AF%D8%A9-%D9%85%D8%B3%D8%A7%D8%AE%D8%B1-%D9%85%D8%AF%D9%8A%D9%86%D8%A9-%D9%85%D8%AC%D9%87%D9%88%D9%84%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A8%D9%84%D8%A7%D8%AF-%D9%85%D9%86%D8%B3%D9%8A%D8%A9The post “حادثة عيش السرايا” لحمور زيادة.. مساخر مدينة مجهولة في بلاد منسية appeared first on صحيفة مداميك.