السودان بين الوعود والوعيد

Wait 5 sec.

عمر العمرللمؤرّخ السياسي المصري عبد الرحمن الرافعي مقولة متداولة : “الوعد السياسي جرأة في الكذب، جرأة في الاعتذار”. وخطاب كامل إدريس، عقب تعيينه رئيسا للوزراء في السودان، يطابق الشطر الأول من مقولة الرافعي عند محاكمته بحيثيات التشكيل الحكومي. لكن الشطر الثاني من مقولة الرافعي يصبح “جفولا عن الاعتذار”، فالتكوين الوزاري لا يدين إدريس فقط بالحنث في الوعد، بل بجريمة الكذب على الأمة، فالسياسي، قائدٌ أو نظام يُحاكم بنصوص عهوده ووعوده. السياسة في الأصل مبنيةٌ على الوعود المضمّنة في البرامج، البيانات، الخطابات والموازنات. التشكيلُ الحكومي يعرّي الرجل من المصداقية أمام الشعب، فليس فيه ما يشي بالحد الأدنى مما وعد به من حرّية في القرار أو تجاوز آفة المحاصصة. هو أصلا مدانٌ بتجاهل قضية الساعة السودانية؛ الحرب والسلام. سقط القناع. إدريس أحد أحجار رقعة النظام الانقلابي. وزراؤه نخبة مصابة باللهاث وراء المناصب. ليس في وسعهم الرهان على كسب ثقة الشعب المتوهمة أو الجرأة على ممارسة الكذب.***وعود كامل إدريس مثلُ سخافةِ وعد ترامب إبّان حملته الانتخابية بإعادة العمال إلى مناجم الفحم .هذه صناعةٌ غادرت العصر، فلم بعد الفحم مصدرا للطاقة في زمن الطاقة النظيفة. رغم تجاهله قضية الحرب والسلام، فالوعد الحقّ في خطابه هو إلغاء المحاصصة. بعد شهرين إلا قليلاً من التسكّع خارج مهام المنصب، بدأ كامل إدريس التشكيل الحكومي (بالمفرّق). القطعتان الاوليان (مناولة) مكشوفة. ما صدر من وعود المستوزرين الجدد فقاعات ملوّنة كلُعب الأطفال، فما من مشروع قابل للتنفيذ في ظل انهيار الدولة وحطام آلياتها. ما تبقى منه الحطام في قبضة الدولة العميقة. قوامها حرّاس مصالح رجال نظام عمر البشير. لهم الخبرة والقدرة على ترويض الجهاز التنفيذي.التشكيل الحكومي المطبوخ بالترضيات يفرّغ الحكومة من احتمالات تحقيق الوعود الكاذبة. هذا واقعٌ متورم بأوبئة يستحيل معها الرهان على تحقيق إنجازٍ على الصعيد الوطني، على أفضل النيات الحسنة تجد الحكومة نفسها تخوض معارك بين الوعود والوعيد.***قبول إدريس حكومة يجري تشكيلها بالمناولة والمفرّق، مفرّغة من السلطات، بدايات ارتضاء ممارسة “الاستربتيز” السياسي الفاضح أمام الجميع. الشعب كله يدرك مسبقاً الفصول الهابطة بعد العرض الأول. أسدل المشاهدون الستار، أطفأوا الأنوار وغادروا القاعة. المهرّجون والمستوزرون الجدد وحدهم بقوا على الخشبة، والمخرجون خلف الكواليس. المشهد مرتبك الإخراج ينبئ بأن الشعب لم يعد يترقّب مزيدا من الوعود الكاذبة. هذه الدورة الأخيرة في بث الاحلام المجهضة عمداً مع كل الإصرار. الاستبداد بالسلطة وسرقة أرصدة الشعب وأحلامه بلغت منحنى الانكسار. هذه مؤشّرات موسم التآكل من الداخل. أضحت هذه الطقمة ثمرة متخثرة، حتى بعد محاولات تجميلها بشهادات اكاديمية. إن لم تسقط سيحرقها الشعب الصابر حتماً، عندما يخرج من تحت الأنقاض، ليحوّل الوعود الكذوبة إلى وعيد في موسم المحاسبة.***بغضّ النظر عن قوام الحكومة المعلنة وقدرات طاقمها فهي باطلة، إذ إنها مبنيةٌ على الباطل، فالفريق أول عبد الفتاح البرهان وإخوانه يعِدُون طوال ثلاث سنوات، هن الأقسى في تاريخ الشعب السوداني المعاصر، بنصر حاسم. هم لا يعلمون أن من غير الممكن تحقيق نصر في غياب بناء استراتيجي متكامل. ويعد كامل ادريس السودانيين برخاء اقتصادي! كأنما لا يعلم أن من المستحيل بلوغ رخاء من دون سلام واستقرار! الجدل العقلاني حسب توقيت الساعة السودانية محوره سباقٌ بين الانفراج السياسي وإخماد نار الحرب. كم هو مؤسفٌ لهاثُ حملة سندات تأهيل علمية إلى كتلة الاستبداد والفساد واللامبالاة زمن الحرب. الخيار الوطني الجدير بالاحترام هو الانحياز إلى معسكر الحالمين بالحرّية والتغيير والديمقراطية، لكن لهاث الجرذان يحدُث تحت حمّى شبق الافتتان بالسلطة والامتيازات الزائفة وإغراءات المال السياسي! جميع الساسة الهواة لا يدركون أن العلاقة بينهم وبين الشعب تبدأ بالأداء بعد استلام المناصب، ليس قبل بمنظور الرصد والمحاسبة.***تقود الأحلام الشخصية أحيانا الشعوب إلى تجارب مأساوية. جعفر النميري ومعمّر القذافي رأيا عند العتبات الأخيرة من ستينيات القرن الأخير في جمال عبد الناصر الأوزة الطائرة، فحاولا اللحاق بها من دون بوصلة. العقيدان قدّما للسودانيين والليبين باقاتٍ من الوعود الزاهية على دروب البناء والتقدّم والازدهار، لكن الشعبين لم يخسرا ماضيهما الجميل فقط، بل استنزفهما العسكريان أجيالا من الدم والمعاناة والبؤس. روّج الرئيس المصري الراحل، أنور السادات، لشعبه اتفاق كامب ديفيد على أطباق ملؤها وعود بالرخاء والرفاهيه. وحدها “القطط السمان” التهمت حتى بشمت عناقيد مصر. لم يجرؤ السادات، على روحه الرحمة، على الاعتذار من المصريين، ولو على حياء، كما رأى الرافعي. حسن الترابي وإخوانه وعدوا السودانيين بالطّهر والنماء والرفاهية، لكن الشعب شهد في عهدهم كل أشكال الفساد والرذيلة والتخلف. المطالبة بإعادة الحال على ما كان قبل الانقلاب تعبير يفصح عن موقف سياسي بليغ أكثر من كونه طرفة شعبية ساخرة.***خاض ترامب حملته الانتخابية ملوحاً بـ24 وعداً، تراوحت بين إبعاد الرجال عن الرياضة النسائية مرورا بتنظيم أكبر حملة ترحيل جماعي إلى ما وراء الحدود، انتهاءً بجعل أميركا عظيمة. ها هو يخوض حروباً في الداخل والخارج بكل العتاد العسكري، بما فيه القنابل الثقيلة، وبالمغامرات الحمقاء وبالكلمات الحارقة وبالرسوم الجمركية، ولمّا ينجز بعد نصف الوعود، لأنها كما قال الرافعي جرأة في الكذب. يجسّد ترامب صورة مضخّمة للسياسي صاحب الوعود البرّاقة الزائفة. ذلك ليس هو التحدّي، إذ محور القضية كيفية الوفاء بالوعود، أو على الأقل ابتكار طرائق مقنعة للنكوص عن تنفيذها! موقف كامل إدريس وطاقمه الوزاري يزداد تعقيداً ليس لافتقاره فقط إلى آليات الوفاء بالوعود أو القدرة على الإقناع بالإخفاق، بل لأنه يصعد بينما بوادر عاصفة تبدو في الآفاق من جهات متعدّدة. … ربما تبدو على إيقاع خافت، لكنها تهب حتماً!The post السودان بين الوعود والوعيد appeared first on صحيفة مداميك.