مهيد صديق(1)في كل حرب، تكون الكلمات أول أدوات القتل. ففي ألمانيا النازية، كان الخطاب الإقصائي هو الأساس الذي قامت عليه المحرقة. قبل أن يُحرق اليهود والغجر والمرضي والمعاقون، كان النظام النازي قد رسّخ في أذهان الألمان أن هؤلاء ليسوا أشخاصًا أو بشرًا، وإنما أعداء للجنس الآري ونقطة ضعف في الجسد القومي يجب استئصالها. لقد هيّأت اللغة الطريق للمحرقة، تمامًا كما تفعل اليوم مفردات الحرب في السودان.في الولايات المتحدة الأميركية، خاض المستعمرون والجيش الأميركي حروبًا طويلة ضد السكان الأصليين (الهنود الحمر)، سُلبت خلالها أراضيهم وارتُكبت مجازر دموية بعد أن تم تصويرهم في الأدبيات العامة كـ”حيوانات برية / عقبات أمام الحضارة / كائنات بلا دين / طفيليات على جسد الأمة يجب إزالتها. وأنتجت سياسة الأرض المحروقة والتهجير القسري والإبادة الجماعية، مثل “درب الدموع”، أدوات لتصفية وجودهم تحت غطاء خطاب نزع الإنسانية.أما في أمريكا اللاتينية، فقد استخدمت الأنظمة العسكرية في الأرجنتين وتشيلي مفردات تصف المعارضين بأنهم فيروسات وطفيليات وأعداء الصليب، ومتخلفون ومجرمون وخطر أمني وشيوعيون. واستخدمت هذه الخطابات العنصرية لتبرير حملات التطهير الثقافي والجسدي، وعمليات التعقيم القسري، وسلب الأراضي، وتجريم الحركات الاحتجاجية، فيما عُرفت بــ( لحرب القذرة).في رواندا وصف التوتسي ب / الصراصير.(2)ما يجري في حرب 15 أبريل 2023 هو خرق فجّ لكل القوانين الدولية، وعلى رأسها اتفاقية جنيف الرابعة، التي تضمن حماية المدنيين في زمن الحرب. كما يتم تجاهل كل المواثيق المتعلقة بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. إن فشل المنظومة القانونية الدولية في وقف هذه الانتهاكات يُعطي الضوء الأخضر لمزيد من القتل والتهجير والتطهير العرقي.منذ اندلاع الحرب الاهلية الأخيرة، بدأت اللغة تأخذ شكلاً آخر، تجاوز حدود التعبير السياسي أو العسكري، لتصبح أداة قمع وإقصاء ممنهج، تُستخدم لتجريد الآخر من قيمته كإنسان، مما يفتح الباب أمام ارتكاب أبشع الجرائم دون شعور بالذنب. يشبه هذا النهج ما عرفته البشرية في أكثر لحظاتها ظلامًا، وهو ليس جديدًا على السودان، بل امتداد لتاريخ طويل من الخطاب العنصري والعنف البنيوي.(3)اللغة الإقصائية: رصاصة الحرب الأولى – لأن قتلهم أسهل بهذه الطريقة.في الحرب، لا يُطلق الرصاص فقط من فوهات البنادق، بل من أفواه الجنود والمقاتلين أيضًا. الكلمات تتحول إلى رصاص لغوي يسبق الفعل القاتل والمجرم. هذه المفردات لا تُطلق اعتباطًا، بل تُزرع في بنية العقل المقاتل كأداة تبرير وإعفاء من المسؤولية.لم تكن الحرب الأهلية في 15 أبريل 2023، كما في بقاع كثيرة من العالم، مجرد صراع على الأرض أو السلطة، بل صراع على التسمية: هل هي “حرب كرامة”؟ أم “حرب هدم دولة 56″؟فاللغة كانت، ولا تزال، أداة مركزية في تأطير الآخر وتجريده من إنسانيته. شاعت المصطلحات والمفردات في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، محمّلة بحمولات عنصرية ومناطقية ولا إنسانية، تعمل على نزع الصفات البشرية ليسهل قتلهم.تتكاثر المفردات يوميًا: وهذا الكلمات المخففة التي يسمح بها المقال كـــ /فلنقاي / معلوف / غرابي / أجانب / متعاون / عميل. / فلول ..الخ. وتصف الضحايا القتلى بــــ/الجيفة / انجغم / انبله/ نفق / فطيس/ تم صيده – أوصاف تُطلق على البهائم، وتكررت عبارات الاضطهاد للمرأة التي كانت تتسرب في الونسات المكتومة لمهاجمة النساء الفاعلات في العمل العام. وانتشرت عبارات من الصعب ان اكتبها في هذه السطور لكنها تغلغلت داخل الخطاب اليومي للاسر والجلسات والونسات بين كافة الشرائح الطبقات والاثنيات .نخلص الي انه. لا يمكننا أن نتعامى عنها أو نصفها بمصطلحات عابرة، بل هي أدوات نزع إنسانية لوصف الآخر، لإقصائه من حقوق المواطنة، وتجريده من صفاته البشرية، تمهيدًا لتبرير كل أنواع العنف ضده. حين يتحول الآخر إلى شيء – مجرد “شئ” لا ينتمي إلى دائرة البشر، إلى /خرقة، بهيمة/– يصبح قتله مباحًا، بل مستحبًا في نظر العقيدة التي يتشربها المقاتلون في هذه الحرب.هذه اللغة لا تختلف كثيرًا عما شهدته حروب سابقة في السودان والعالم، حيث يُوظَّف الخطاب الإقصائي لإنتاج حالة شعورية عامة تعتبر إبادة الخصم “انتصارًا”، لا جريمة.(4)جذور الخطاب: من حرب جنوب السودان إلى دارفور – تاريخ طويل من الإقصاء والعنفلا تُفهم فظائع الحرب السودانية الحالية بمعزل عن تاريخ طويل من الخطاب الإقصائي والعنف الممنهج داخل الدولة السودانية.قبل حرب 15 أبريل، عاش السودان حربين أهليتين طويلتين في الجنوب، ثم مذبحة إبادة جماعية في دارفور، كلتاهما ترتكز على نزع الإنسانية من الآخر وتبرير إبادته.في الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب (1955–2005)، لم تكن المعركة فقط سياسية أو عسكرية، بل اتخذت بُعدًا ثقافيًا وعنصريًا. صُوِّر الجنوبي السوداني في وسائل الإعلام الحربية والخطاب العام للتعبئة على أنه: “جانقي، عبيد، كفار، همج، لا ينتمي لهوية السودان العربية الإسلامية المفترضة”.هذا الخطاب الإقصائي لم يكن فقط وسيلة للتمييز، بل كان عنصرًا أساسيًا في العقيدة القتالية للقوات المسلحة والمليشيات، مبررًا الانتهاكات: من القصف الجوي للمناطق السكنية، إلى التهجير، إلى استخدام العنف الجنسي كأداة حرب.لاحقًا، في حرب دارفور (2003 – حتى الآن)، أعيد إنتاج ذات النمط، حين صُوِّرت المجموعات غير العربية – الزُرقة تحديدًا – كتهديد عرقي وتمرد قبلي يجب سحقه. استخدمت حكومة السودان مليشيات الجنجويد، التي مارست عمليات إبادة ممنهجة شملت القتل الجماعي، الحرق، الاغتصاب، والتهجير القسري، تحت غطاء خطاب يرى في الضحية – سحنته، ملامحه، نطقه للحروف، تسريحة شعره – أنه عبد ومتمرد يستحق الموت.وصفت الأمم المتحدة هذه الانتهاكات بأنها جرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة جماعية، وأصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحق الرئيس المخلوع عمر البشير، في سابقة تاريخية بحق رئيس دولة في منصبه.هذان النموذجان – الجنوب ودارفور – يمثلان مراحل سابقة من نفس الكارثة الجارية الآن، حيث يُعاد إنتاج الخطاب الإقصائي ذاته، والجرائم ذاتها، مع تمدد الجغرافيا لتشمل كل السودان.(5)العقيدة القتالية وانهيار القيمتزداد حيرتي في الحديث المتكرر عن عقيدة جديدة للجيش من جانب الكثيرين، ولكن الواقع يجدهم مندمجين مع نفس العقيدة الإقصائية. لم أشهد غير الإصرار على تبني العقيدة القائمة على الإقصاء، ونزع بشرية الصراع السياسي، وإعلاء الموقف من المعادلة العسكرية، وتقديس الفعل العسكري كفعل يُحتفى به.ما يحدث هو عقيدة تُعلي من شأن القتل بوحشية، وتُجرده من أي التزام ديني، أخلاقي أو قانوني. وأجد كثيرًا من قادة الرأي وكتاب وسياسيين يجدون مبررًا للعقيدة العسكرية: “دي طبيعة الحرب”. يُذبح المدنيون، وتُضرب البنى التحتية من محطات مياه وكهرباء ومستشفيات، وتُحرق القرى والفرقان، وتُمنع انسيابية البضائع والتجارة، وتُرتكب المجازر الجماعية والاغتصابات، دون أن يُرف جفن، لأن الضحية لم تعد في نظرهم إنسانًا.تشهد هذه الحرب بأنها حرب بلا أسرى، أو أسرى يُنتظر موتهم في معتقلات تشبه معتقلات النازية: تجويع بلا رعاية صحية، بلا سجلات لأسمائهم، لأنهم ببساطة ليسوا بشرًا في عقيدة الحرب الحالية.لقد كانت اللغة مقدمة للفعل الإجرامي، والعقيدة العسكرية لهذه الحرب لا ترى في الضحايا بشرًا، بل أهدافًا مشروعة للتطهير والسحل والقتل.(6)صمت القوى السياسية والمدنية: أهو تطبيع للجريمة أم احتفاء صامت؟اللافت في هذه الحرب هو غياب موقف حازم وواضح من القوى السياسية والمدنية تجاه هذا الخطاب الإقصائي. في أحيان كثيرة، تُمرَّر هذه المفردات، وتُحتفى الجرائم باعتبارها “انتصارات”، في حين أنها هزائم أخلاقية تفقد المجتمع آخر ما تبقى من تماسكه الإنساني.هذا التواطؤ بالصمت أو بالتبرير من قادة الرأي نتيجة انحيازاتهم للحرب، يُعمّق الجراح، ويُطيل أمد العنف والعنف المضاد – وإن قالوا “لا للحرب”.هذه الحرب الأهلية تركت – وستترك – وراءها جراحًا غائرة وصدمات نفسية واجتماعية لا تُداوى بسهولة. ما تحتاجه البلاد اليوم ليس فقط وقف إطلاق النار، بل وقفة حقوقية شجاعة، وتأسيس جبهة لرصد وتوثيق الانتهاكات والجرائم، تضمن ألا يفلت أي مجرم من العقاب، وأن تُرفع راية العدالة فوق كل المصالح السياسية والقبلية والإثنية.للأسف، أرى أن المنصات الحقوقية السابقة للحرب، فعلت فيها الحرب فعلها، وتشتتت بين القبائل والإثنيات والمواقف السياسية، ليدافع أفرادها كلٌّ حسب ميوله. فتارة يكتب عن انتهاك هنا، ويُخفي ويصمت عن انتهاك هناك..(7)ما يحدث في السودان ليس مجرد صراع مسلح، بل كارثة إنسانية تُدار بعقلية إقصائية تستند إلى مفردات مدروسة وتجارب تاريخية مظلمة في الارث البشري. إن التصدي لهذا النوع من الخطاب والوعي بأبعاده ضرورة .سياسية وأخلاقية، ليس فقط لحماية الضحايا، بل لحماية ما تبقى من إنسانيتنا جميعًا.The post اللغة كسلاح إبادة: من الجنوب ودارفور إلى الخرطوم – قراءة في عقيدة نزع الإنسانية… اللغة الإقصائية: رصاصة الحرب الأولى appeared first on صحيفة مداميك.