خالد كوديكامل ادريس، قناع النخبة المدنية لتغطية وجه سلطة البرهان العارية:في واحدة من أكثر اللحظات التاريخية مأساوية في تاريخ السودان الحديث، ومع اشتداد أوار حرب كارثية تمزق البلاد من أطرافها، وتحوّل المدن إلى رماد، والمجتمعات إلى لاجئين ومشردين، خرج الدكتور كامل إدريس على السودانيين بطلّة رسمية باردة، مرتديًا بذلة أنيقة، ليعلن قبوله تولي منصب “رئيس وزراء السودان”. ما بدا خطابًا احتفاليًا كان في جوهره تعبيرًا عن انحدار أخلاقي وسياسي عميق. لا يمكن فهم هذه الخطوة بمعزل عن السياق السياسي الكلي، فهي ليست سوى فصل جديد في مسرحية الانقلاب العسكري الذي يقوده الجنرال عبد الفتاح البرهان، والذي يحاول من خلالها إضفاء قناع مدني هش على نظام عسكري دموي فاقد للشرعية، عبر واجهات زائفة ومحاولات فاشلة لشرعنة القتل والاستبداد وتجديد قبضة القمع تحت مظلة زائفة من التكنوقراط.تهافت على السلطة في لحظة سقوط أخلاقي شامل:قبول الدكتور إدريس لهذا المنصب ليس مجرد قرار شخصي، بل يكشف عن أزمة النخبة المركزية التي ظلت مستعدة في كل مراحل التاريخ السوداني لأن تكون واجهة لأي سلطة، ولو كانت على حساب الدماء والأشلاء. هذا التهافت حدث بعد سلسلة من التعديلات التي أجراها البرهان على بنية الحكم، ليس من أجل الانتقال، بل لإحكام قبضته العسكرية، عبر:– نزع صلاحيات رئيس الوزراء بالكامل، وتحويلها إلى العسكر و مجلس السيادة الذي يهيمن عليه العسكر.– السيطرة على التعيينات والإقالات، وخاصة في القضاء والمؤسسات التنفيذية.– تجريد رئيس الوزراء من أي دور في الشؤون الأمنية والعلاقات الخارجية.– إلغاء أي مظهر من مظاهر التوازن المدني–العسكري لصالح ديكتاتورية عسكرية صريحة.وبذلك، تحوّل المنصب إلى مجرد وظيفة إدارية بلا سلطة ولا معنى. ومع ذلك، أظهر إدريس استعدادًا مخجلًا للقبول بهذا الدور المشوّه، دون اعتراض أو تحفظ، بل وتقديم نفسه كحلٍّ للأزمة بدلًا من الاعتراف بجذورها. وهو في ذلك يمثل تكرارًا لدور النخب التي لطالما سعت للسلطة حتى إن كانت أدوات في يد القمع، أو شهود زور على جرائم ترتكب باسم الدولة، مقابل مواقع رمزية لا تأثير لها في موازين القوى. وفي الوقت الذي يفرّ فيه أبناء الشعب من نيران الحرب، يهرول إدريس إلى قلب منظومة الحرب طلبًا للسلطة.الوجه المدني المطلوب لفك الحصار الدولي — دبلوماسية التمويه والانبطاح:البرهان لا يبحث عن شركاء، بل عن أقنعة بشرية تغطي وجه سلطته العارية. الهدف من تعيين إدريس لم يكن خدمة الشعب السوداني، بل خدمة مشروع العسكر المأزوم دوليًا.تعيين إدريس جزء من استراتيجية محكمة تسعى إلى:– كسر تجميد عضوية السودان في الاتحاد الإفريقي.– استمالة الاتحاد الأوروبي والدول الغربية عبر واجهة مدنية مصطنعة.– تقديم صورة استقرار مزيف لدول الإقليم التي تهمها المصالح لا الحقوق.– إيهام المجتمع الدولي بوجود تحول ديمقراطي شكلي يُخفي استبدادًا عميقًا.إدريس، بهذه الخلفية، مثالي لهذا الدور:– يتحدث بعدة لغات أجنبية، ما يسهل تسويقه في المحافل الدولية.– لا يتمتع بقاعدة جماهيرية أو امتداد شعبي، ما يجعله قابلًا للتوجيه والتبديل.– لا يمثل الثورة أو الهامش أو قوى التغيير، بل النخب البيروقراطية القديمة.بالتالي، فهو ليس رئيس وزراء، بل موظف علاقات عامة بدرجة وزير أول، لا يخدم الشعب، بل يروّج لسلطة انقلابية تسعى لغسل جرائمها بواجهة مدنية، تمتص بها النقد الدولي وتعيد تموضعها. إنها محاولة دبلوماسية مكشوفة لا تخفى على أي متابع سياسي حصيف، وتخدم أجندة إقليمية ودولية لا علاقة لها بتطلعات السودانيين. كما أن وجوده في هذا الموقع يعطي الانقلابيين ما لم يستطيعوا الحصول عليه بالسلاح: شرعية مدنية مزيفة.خطاب مغترب عن الوطن — انفصام النخبة عن الواقع والمجتمع:في خطابه الأول، تحدث إدريس بلغة أقرب إلى لغة السفراء في جنيف منها إلى لغة الثورة في أم درمان أو الجنينة أو كادوقلي. استخدم في خطابه الإنجليزية والفرنسية والاسبانية…محض استعراض، متجاهلاً أن غالبية السودانيين لا يفهمون هذه اللغات ولاتهمهم، انما يهم مشروع لوقف الحرب وتحقيق سلام عادل مستدام يقوم علي تفكيك بنية السودان القديم لا عنتريات خطب القضاء علي “التمرد”..كان الأجدر به أن يبدأ خطابه باعتذار لشعب أنهكته الحرب، وبوعد بوقف آلة القتل. لكنه لم يفعل. بدا كمن يخاطب السفراء لا الشعب. وهذا ليس مجرد خلل في الأداء، بل تعبير عميق عن الانفصال النفسي والسياسي للنخبة الحاكمة عن شعبها. كما يعكس فهمًا نخبويًا ضيقًا لمعنى السياسة بوصفها تمثيلًا وخدمة للشعب، لا ترويجًا لصورة نخبوية للذات. إنه انفصام لغوي وثقافي ونفسي، يعكس العجز عن التواصل مع واقع السودان المتعدد، وعن مخاطبة الشعب ، ويُظهر افتقارًا تامًا للحس التاريخي والاجتماعي والسياسي.غياب تام لفهم جذور الأزمة الوطنية:– لم يأتِ إدريس على ذكر أي من الأسباب الحقيقية التي فجّرت الأزمة السودانية.– لم يتحدث عن المركزية الاستبدادية التي احتكرت السلطة والثروة منذ الاستقلال.– لم يتطرق إلى هيمنة الهوية الواحدة ومحاولات محو الثقافات المتعددة.– لم يشر إلى الانقلابات المتكررة التي عطّلت الحياة السياسية والمدنية.– لم يعترف بأن المؤسسة العسكرية نفسها هي سبب الكارثة لا جزء من الحل.– لم يقترب من خطاب العدالة التاريخية، ولا من قضايا الهوامش المستعمرة.كما قال توماس سانكارا: “الذين جعلوا الأزمة ممكنة لا يمكن أن يكونوا هم من يصنع الحل”إدريس، بقبوله هذا الدور دون شروط، أعطى شرعية مجانية للقتلة، وأعفى الدولة من مسؤوليتها عن تاريخ طويل من العنف والتمييز. ولم يعبر خطابه عن وعي حقيقي بدروس التاريخ أو احتياجات اللحظة، بل جاء كبيان تنفيذي لا يعبر عن مشروع وطني، ولا عن وعي سياسي، بل عن حالة اغتراب مدنية سطحية تُنكر التاريخ وتستجدي الاعتراف الخارجي.مشروع بلا مضمون — “إعادة الهيكلة” أم إعادة إنتاج الكارثة؟في خطابه، تحدث إدريس عن “إعادة هيكلة الدولة”، لكنه لم يوضح كيف، أو لأي غاية، بل وماذا يعني بالهيكلة من اصلو. فهل يقصد الترميم البيروقراطي؟ أم إصلاح الشكل دون المضمون؟ هل يقصد إعادة بناء على أسس ديمقراطية عادلة، أم مجرد صيانة لمؤسسات نخبوية مركزية فاشلة؟إن الحديث عن الهيكلة في ظل بنية فوقية لا تمثل قاعدة المجتمع، هو تكرار لنفس الإخفاقات. المطلوب ليس التجميل بل الهدم وإعادة التأسيس، وفق أسس:– العلمانية وفصل الدين عن الدولة– اللامركزية الحقيقية وتوزيع السلطة جغرافياً وثقافياً– العدالة التاريخية وجبر الضرر– الاعتراف بتقرير المصير كمبدأ لا كتهديد– إدماج المجتمعات المهمشة في صلب العقد الاجتماعي الجديدهذه ليست قضايا نظرية، بل شروط لبقاء السودان نفسه ككيان موحّد. وأي محاولة للالتفاف عليها باسم “الكفاءة” أو “الخبرة” ليست سوى إدامة للاستبداد، وتأبيد لمعادلات الهيمنة، وخيانة للثورة.كامل إدريس: موظف في بلاط الجنرالات — تبعية كاملة لا مشروع سياسي:من يتحدث عن “الإدارة الناجحة” في ظل المجازر لا يفهم السياسة. ومن يتحدث عن “هيبة الدولة” دون أن يدين مجازر دارفور لا يعرف معنى الدولة. ومن يقبل تعيينه من قِبل سلطة انقلابية فهو جزء منها مهما ادّعى الاستقلالية. إدريس، بخطابه وبمواقفه، لا يقدّم رؤية انتقال، بل ينفّذ أجندة البرهان، ويمنحه ما يفتقر إليه: الغطاء المدني، وشرعية شكلية، وسوقيات دولية. هو امتداد لخط متواطئ، لا يحفظ للسودانيين كرامتهم، بل يستهلكها على موائد التفاوض الدبلوماسي.لماذا يجب معارضة هذا التعيين؟رفض تعيين كامل إدريس واجب أخلاقي وسياسي وثوري. لأن قبوله يمثل انحيازًا واضحًا إلى معسكر الحرب، لا إلى معسكر السلام والعدالة. إدريس لا يتحدث عن وقف إطلاق النار، ولا يقدم أي تصور جاد للحوار الوطني، بل ينخرط في خطاب يجرّم قوى الثورة ويبرر تحركات الجيش، ويصفها بـ”استعادة هيبة الدولة”.في ظل حرب تُستخدم فيها الطائرات والمدفعية الثقيلة ضد المدنيين، يصبح الصمت خيانة، فما بالك بالاصطفاف؟ إدريس لا يدين العنف، بل يصمت عليه، ويمنحه غطاء شرعيًا. ويتجاهل ما يتعرض له المدنيون من تطهير عرقي، وتجويع ممنهج، وانهيار كامل لمقومات الحياة.من هنا، فإن معارضة هذا التعيين ليست خلافًا سياسيًا، بل معركة من أجل مصير بلد. إنها معركة بين مشروع يريد إعادة إنتاج الدولة القديمة بوجوه جديدة، ومشروع يسعى لتفكيك جذور الاستبداد وبناء سودان جديد قائم على الحرية، والعدالة، والمساواة. إن قبول إدريس بالمنصب في هذا التوقيت الحرج، وبشروط العسكر، يعني التماهي الكامل مع بنية القمع، والقبول الضمني باستخدام الدولة كسلاح حرب لا أداة بناء. فإدريس ليس جزءًا من الحل، بل غطاء ناعم لاستمرار الكارثة.خاتمة: السودان لا يُبنى بواجهات فارغة:السودان لا يحتاج إلى دبلوماسيين ناعمين أو نخب مغتربة، بل إلى قادة يعرفون الأرض والناس والتاريخ. لا شرعية لأي مشروع لا يبدأ من الاعتراف بالثورة، ولا مصداقية لأي إصلاح دون تفكيك الدولة المركزية العنصرية.إدريس ليس وزير سلام، بل وزير حرب ناعم. ليس ممثلاً لكل السودانيين، بل واجهة لعسكر البرهان. ولا يختلف كثيرًا عن موظفي الأمم المتحدة الذين ظنّوا أن لغة القوة هي البيانات.السودان الجديد لا يُكتب في بورتسودان، بل من عمق الثورة، من الهامش، من الدم، ومن الحلم. ومن يظن أن التجميل اللغوي يصلح ما أفسده العسكر، فليقرأ التاريخ: الدولة لا تعاد بالكلمات، بل بالعدالة.النضال مستمر والنصر اكيد.(أدوات البحث التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالاتThe post كامل إدريس: دمية ناعمة في مسرح العسكر — نقد جذري لوهم “المدنية” appeared first on صحيفة مداميك.