البروفيسور مكي مدني الشبلييقف السودان عند مفترق طرق تاريخي، فمنذ اندلاع النزاع المسلح الشامل في أبريل 2023، دخلت البلاد في كارثة إنسانية واقتصادية ومؤسسية غير مسبوقة. فقد تعرّضت مدن مثل الخرطوم والجنينة ونيالا والفاشر لدمار واسع النطاق، وتم تهجير أكثر من 13 مليون شخص، وقتل أكثر من 60,000، وانهارت البنية التحتية الأساسية من مستشفيات وصوامع غلال تحت الحصار والقصف والنهب.وفي هذا السياق العصيب، أتقدّم بجزيل الشكر والامتنان لمجموعة البنك الإفريقي للتنمية على دعوتها الكريمة لي للمشاركة كمناقش رئيسي في فعالية إطلاق تقرير التركيز القطري – السودان 2025. لقد كانت فرصة ثمينة للمساهمة في نقاش حيوي حول مستقبل الاقتصاد السوداني، ولقاء نخبة من الخبراء وصنّاع القرار الذين يتشاركون الإيمان بإمكانية التعافي والبناء رغم هول التحديات.ويُعد هذا التقرير، ضمن سلسلة “تقرير التركيز القطري” (AfDB Country Focus Report on Sudan, CFR 2025) وثيقة في غاية الأهمية وفي الوقت المناسب. إذ يقدم تشخيصاً اقتصادياً شاملاً يوضح حجم الدمار، ويقترح إطاراً عملياً لمسار مستدام نحو التعافي. وقد أشار التقرير إلى انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 37.5٪ في عام 2023، تلاه انخفاض بنسبة 12.8٪ في عام 2024، مما يشير إلى تراجع تراكمي بنسبة 50.3٪ خلال عامين.ويُعد المنهج التحليلي المتكامل المعتمد على “رأس المال المتعدد multi-capital ” أحد أبرز إسهامات التقرير، حيث يوفّر إطاراً مفيداً لترتيب أولويات السياسات في مرحلة ما بعد الحرب. ومن أهم النقاط التي يطرحها التقرير، تقديره بأن السودان يواجه فجوة تمويلية سنوية قدرها 24.3 مليار دولار أمريكي لتحقيق التحول الهيكلي والتنمية المستدامة.وفي هذا المقال، أعرض ثلاث قضايا محورية كما يلي:أولاً: كيف حُسبت الفجوة التمويلية السنوية البالغة 24.3 مليار دولار أمريكي؟رغم أن التقرير لا يفصّل منهجيته بدقة، إلا أنه يستند على الأرجح إلى نماذج دولية لتقدير كُلفة تحقيق أهداف التنمية المستدامة في الدول الهشة. وعادةً ما تتطلب مثل هذه الدول استثمارات سنوية تتراوح بين 15٪ و25٪ من ناتجها المحلي الإجمالي، تشمل الإنفاق على الصحة والتعليم والبنية التحتية والمناخ.وبالنظر إلى أن الناتج المحلي قبل الحرب كان يقدّر بين 60 و70 مليار دولار، فإن سد فجوة التمويل يتطلب ضخ نحو 24 مليار دولار سنوياً، لتلبية احتياجات استثمارات أهداف التنمية المستدامة (الصحة والتعليم والبنية التحتية) المقدرة بنحو 10-12 مليار دولار أمريكي، وإعادة بناء الأصول والمؤسسات العامة بعد الصراع المقدرة بنحو 7-9 مليار دولار أمريكي، واحتياجات التصحر، وأنظمة الغذاء، والطاقة المتجددة، والوصول إلى المياه المقدرة بنحو 2-3 مليار دولار أمريكي. وبالتالي فإن سد فجوة التمويل السنوية يتطلب توفير نحو 24.3 مليار دولار أمريكي.ثانياً: ما دور تعبئة الموارد المحلية في تقليص هذه الفجوة؟في عام 2023، لم تتجاوز نسبة الإيرادات الضريبية 3.3٪ من الناتج المحلي، وهي من أدنى النسب في العالم، وتعكس هشاشة الدولة وضعف مؤسساتها المالية. ومع ذلك، فإن تعبئة الموارد المحلية تمثل حجر الزاوية لبناء دولة فعَّالة ومتماسكة، إذا توفرت الإرادة السياسية والإصلاحات التشريعية والتقنية.ويمكن أن تُسهم إصلاحات النظام الضريبي، وحوكمة الموارد الطبيعية، والرقمنة، ومحاربة التدفقات المالية غير المشروعة، في توليد ما بين 8 إلى 12 مليار دولار أمريكي سنوياً. ورغم أن هذه الخطوة لن تغلق الفجوة بالكامل، إلا أنها تمثّل التزاماً وطنياً ضرورياً تجاه الاستقلال المالي.ثالثاً: كيف يُمكن سد الفجوة المتبقية من خلال التمويل الخارجي؟وحتى في أفضل السيناريوهات المتعلقة بتعبئة الموارد المحلية، سيظل هناك عجز سنوي يقدّر بين 12 إلى 16 مليار دولار أمريكي. ويمكن سده عبر مزيج من:• المساعدات الإنمائية الرسمية من شركاء مثل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ودول الخليج، بالإضافة إلى التمويل من المؤسسات الدولية، بما قد يصل إلى 4 مليارات دولار أمريكي سنوياً.• التمويل الميسر وتخفيف عبء الديون، إذ يُعدّ السودان من أكثر الدول مديونية، وتتجاوز ديونه 160٪ من الناتج المحلي. إذا تم تنفيذ مبادرة إعفاء ديون البلدان الفقيرة (HIPC) بشكل كامل، فإنها قد توفّر مساحة مالية جديدة تبلغ 4 إلى 5 مليارات دولار أمريكي سنوياً.• الاستثمار الأجنبي المباشر، في حال توفرت إصلاحات قانونية وضمانات، يمكن أن يجذب السودان استثمارات تتراوح بين 2 و3 مليارات دولار أمريكي سنوياً، خصوصاً في الزراعة والطاقة والخدمات اللوجستية.• استثمارات المغتربين السودانيين، وهي مورد غير مستغل، يمكن تحفيزه من خلال أدوات مالية مبتكرة، كالسندات وحسابات التوفير الرقمية، ما قد يضيف نحو ملياري دولار أمريكي سنوياً.• التمويل الأخضر والمناخي، خاصة من الصناديق العالمية والإقليمية، والتي يُمكن أن توفر ما بين مليار إلى 1.5 مليار دولار أمريكي سنوياً، إذا ما تم وضع استراتيجية وطنية فعالة لتمويل المناخ.الاعتماد على الذات دون إصلاح: وهم اقتصادي أم انتحار تنموي؟في ظل الخراب الشامل الذي ألحقته الحرب الجارية بمقدرات السودان ومؤسساته، يروج البعض لما يُسمى بخيار “الاعتماد الكامل على الذات” كسبيل أوحد لسد الفجوة التمويلية البالغة نحو 24.3 مليار دولار أمريكي سنوياً (تعادل نحو 40% من الناتج المحلي الإجمالي قبل الحرب) دون الحاجة للإصلاحات الاقتصادية المطلوبة لتأمين الدعم الدولي. ورغم ما في هذا الطرح من عواطف وطنية مشروعة، إلا أنه لا يصمد أمام الحقائق الاقتصادية ولا يجيب عن السؤال الجوهري: كيف يمكن لاقتصاد منهك، بلا مؤسسات فاعلة أو نظام مالي موثوق، أن يمول نهضته بمعزل عن الإصلاح والشراكة الدولية؟ فالاعتماد على الذات ليس مجرد شعار سيادي، بل نتيجة لعملية إصلاحية عميقة تعالج الخلل في النظام الضريبي، وتكافح الفساد، وتستعيد السيطرة على الموارد المنهوبة، وتفعّل أدوات السياسة المالية. أما في غياب هذه الشروط، فإن الموارد المحلية نفسها ستظل مهدرة أو خارج الدورة الاقتصادية الرسمية. ومن ناحية أخرى، فإن المساعدات الدولية، وتخفيف أعباء الديون، والتمويل التنموي الميسر ليست هبات عشوائية، بل جزء من نظام دولي لا يمنح الثقة مجاناً. بل مطالبته بإصلاح المنظومة الاقتصادية والإدارية، وتحقيق الحد الأدنى من الاستقرار السياسي، هما الشرطان الأوليان لاستعادة مكانة السودان في مؤسسات التمويل الإقليمية والدولية. ولا يخفى أن الاستثمارات الوطنية، بما في ذلك مدخرات المغتربين، لن تعود إلى السودان ما لم تتوفر الضمانات القانونية والاقتصادية والإدارية. فالعقبات التي تحول دون تدفق التمويل الخارجي، هي ذاتها التي تعيق تدوير الموارد المحلية وتمنع نمو القطاع الخاص الوطني.وعليه فإن الاعتماد على الذات هدف لا خلاف عليه، لكنه لا يتحقق بالخطابة الأيديولوجية ولا بمقاومة الدعم الخارجي في ذاته، بل يتحقق حين يصبح الاقتصاد السوداني قادراً على تعبئة موارده بكفاءة، واستقطاب الشراكات الموثوقة، والتخطيط للانتقال من الاعتماد إلى الاكتفاء، ومن الكفاف إلى التنمية. أما أن يُرفع شعار الاعتماد على الذات للهروب من الإصلاح، فذلك ليس طريقاً إلى التعافي، بل إلى الانغلاق والانهيار.خاتمة: رأس المال ليس مجرد تمويل، بل أداة للسلامإن التقديرات اليي قدّمها تقرير البنك الأفريقي للتنمية ليست مجرد أرقام مالية، بل هي تحدٍّ سياسي بامتياز. إذ لا يمكن سد فجوة تمويل بهذا الحجم في بيئة يتفكك فيها جهاز الدولة، ويعيش الملايين في حالة نزوح، وتنهار فيها البنى التحتية.رأس المال، في هذا السياق، ليس مجرد أداة اقتصادية، بل هو رافعة سياسية واجتماعية. إذ يمكنه أن يعزز فرص السلام أو يفاقم مسببات النزاع، بحسب طريقة تعبئته وتوجيهه. وبالتالي، لا بد من تبني نهج يراعي طبيعة السياق النزاعي في السودان، ويستخدم الموارد المالية بشكل استراتيجي لتعزيز التعافي الشامل.فإذا تحقق السلام المستدام، وتم تكوين حكومة مدنية ذات مصداقية، ونُفّذت إصلاحات جريئة، يمكن للسودان أن يُطلق العنان لقدراته الكامنة، ويحوّل المأساة إلى فرصة تاريخية. بيد أنه لا يمكن تمويل مستقبل السودان عبر رأس المال الخارجي وحده، بل لا بد من تعبئته عبر إرادة وطنية جماعية.إن تقرير “التركيز القطري 2025” للسودان يقدّم أدوات تحليل مفيدة، لكن مفتاح التغيير الحقيقي يكمن في بناء عقد اجتماعي احتوائي، تُشرف عليه حكومة انتقالية مدنية ومعترف بها دولياً، تقود البلاد خلال خمس سنوات من إعادة البناء والتجديد الوطني.المدير التنفيذي لمركز مأمون بحيري، الخرطومThe post هندسة تمويل إعمار السودان: من التشخيص الاقتصادي إلى العقد الاجتماعي appeared first on صحيفة مداميك.