( النزوح الثاني)

Wait 5 sec.

“قصة من واقع ووحي الحرب التي تنحو بنا فيما يبدو إلى التسلسل و التي تجاوزت العبثية والاستهتار واللعنة بمسمى جديد لم تتضمنه القواميس بعد ولم يَشهده الزمان المُحتشد بالمآسي والمَخازي والمَحن والإحن وما زآلت دائرة في الوطن ونخشى توالي النزوح” .قصة :إقبال صالح بانقالَملَمتُ في عُجالة أغراضي أو أغراضنا الزهيدة الباهتة لكن بِشعور مُختلف وخوفاً أقل كثيراً ، من المرة السابقة لنزوحنا من الخرطوم إلى (ود مدني ) لائيذين بها ظنا أنها ستستعصي عليهم لكن للأسف ثبت لآحقا أنها قُدمت لُقمة سَائقة لهم بِلا مُبرر ولا سؤال .فقد كان الخوف فيما سَبق من نُزوح تصِحبه قَشعريرة واصطكاك أسناني ووقوف شعر رأسي ووجيب ضربات قلبي التي كادت أن تَعلو على صوت الرصاص وصوت قصف الدانات المُتطايرة وأزيز الطَائرات المُسيرة في الحَي ، الحَي الذي لم يَشهد طِوال عُمره سِوى أصوات العربات والمَركبات وهي غادية و رائحة أو صوت طَقطقت الكُمساري على باب الحَافلة وهو يَصرخ عند وقوف الحافلة أو البص (عربي …عربي ) يُنادي بالمحطة جِهة الوصول الشَهيرة وأصوات تَبادل السلام والتحايا والضِحك وحَركة العامة في سَعيهم الدؤوب لِلِعيش وطَلبِه . فَرغم إحاطتنا بكل ما سبق في نزوحنا القصري الثاني من ديارنا المؤقتة ورغم تواضعها ورغم الرعب لكنه كان وقعه أقل وطء وتأثير و السبب يعلم به ويفسره علماء الطب النفسي وجهابذته…. وإن كان السبب لا يستعصى على العامه ولا يحتاج إلى ( درس عصر) . فهذه المرة كنا قد وضعنا أيدينا في الماء البارد في إنتظار الفرج ووقف الحرب وفي العودة إلى ديارنا المَنهوبة ومُدننا الأثيرة ..لكن أن يكن هناك إحتلال آخر ونزوح آخر ونهب آخر فذلك ما لم يكن في الحسبان. ….. وآصلت لَملَمت الأغراض وأنا أحاول جاهداً إختصارها ، ففي المرة الفائتة ، مثلاً أخذت نِعالين غير ما أنتعل في قدمي أحدهما للوجاهة المعلومة عنا لإرضاء الآخرين لكن الآن قذفت بالنعل صاحب الوجاهة في قَرف على الأرض واكتفيت بالمُهترئ منهم الذي كنت إنتعله منذ بداية الحرب وأذهب به إلى مكان عملي الجديد في عاصمة الجزيرة في سوق الله أكبر، حيث أصبحت أبيع البهارات والحبوب لكسب لقمة العيش بعد أن كنت مَرموقا وجيهاً يُشار إلي بالبنان وأغلب زبائني الآن من النساء ربَات البيوت البُسطاء إبتسمت لنفسي رغم الحَرج وأنا أعاين الحذاء في قدمي وشحوبها وتَقشُفها وشُقوقها وأنا المعلوم عني الأناقة والوسامة … فقد كنت دائم الإبتسامة أشيع المَرح رغم لوني الداكن وسواد بشرتي وَلمعتها لكني أقطر خفة ظل و دم ، محبوباً إلى درجة أنني بعد تخرجي لم أجد صعوبة أو غضاضة في التقدم إلى أحدى الحسان والتي إرتضت بي . لم أعد إلى موطني الأصل فقد إفتتحت مكتبة فخمة بِمعاونة أسرتي المُقتدرة إقمتها في شارع رئيسي وأصبحت شاباً ناجحاً وسيماً أجذب زبائني الدائمين من طلبة وأطفال ورواد الثقافة والكُتب وإحتياجاتهم من مواد وطِباعة ومن قراء الصُحف والمَجلات . تَزوجت وإستقريت في العاصمة الخرطوم ورُزقت بثلاث بنات تِباعا ومع بداية الحرب الآنية حملت زوجتي وفرِحنا به وتَمنيناه ولداً ولما مرت الأيام و شهور الحرب وكَبدها عَلمنا أنه ولدا لم أفرح به كثيراً ولكني مَثلت الفَرح فَيومه أو يَومنا كان نُزوحا إلى وجِهة لا نَعلمها وغَده ومُستقبلنا في عِلم الغَيب وإن كان وآضح المَعالم . فآتني أن أقول أنني من غرب البلاد من(الجنينة ) بالتحديد كنا أهل عُزوة وتَاريخ ودِين وأخلاق لا نُضاهى ومَشهود لنا بسمو كل ما يعزز وجودنا في وطن يشيد العالم بسمو أخلاق شَعبه وتَجردها وحُسن دينهم وكنا أو كنت لا أركن لأصل أو فصل أو قبيلة يَقيني كان حُسن الخُلق والقَناعة . لجأنا إلى مدينة ( ود مدني) من العاصمة لحفظ الأرواح في ظرف أو وضع يُندى له الجَبين ، أنا وزوجتي الحامل بالولد الذي تمنيناه ولكن إستغفر الله في قرارة نفسي كنت أتمنى أن أصحو يوما لأجد زوحتي قد أسقطته ليس جبناً مني ولا كفراً والعياذ بالله لكني كنت أقرأ مُستقبله وحَياته كانت كتابا مَفتوح مُسطرأمامي وحياة ثلاث بنات في سن طفولة حَرجة يَحتاجون أي شئ وفي حالة من البكاء الدائم يريدون ويسالون عن بيتهم ومدارسهم وأسباب خروجهم من المدينة كلها وما صفة من أخرجوهم منها خَرجنا وتم نهب وسلب كل ما نملك ومسحوا بأشاءيناوأغراضنا العزيزة وذكرياتنا الغالية الأرض ..أما مكتبتي الرائجة المعروفة للكل فقد سألني أحدهم عن حالها فأكدت له أنها بخير لأن الغُزاة لا يَهمهم أمرها لأنها ليست أكل أو شُرب أو مَغنم مأدي ومَكسب وإن كنت لا أعلم عن حالها الآن مِثلي مِثل غَيري . تَوالت الأحداث المُرعبة خلال تلك الشهور تأتي إلينا بما ناله أهلنا في (نيالا ) من خَزايا ومِحن و قتل وسفك دماء وتَهجير وتَشريد ونَهب وسَلب . كانت الأيام تحمل إلينا أخبار من فقدنا من أرواح وأموال مما يُعجز المرء عن تَقبلها . تتوارد علي الذكرى والخواطر مُطردة مُلحة وما زلت في عُجالتي وأنا أضع أقل من القليل في حقائب من القماش تحملها بناتي الصغار فوق ظهورهم الغَضة وأمهم لا تَستطيع حَمل شئ فهي تحمل أخاهم في بَطنها في ظَرف لا يَعلمه غير الله . وهناك من يَستعجلوننا في إلحاح للخروج لأن حَتفنا أوشك والغزاة قد إحتلوا المدينة ويَعيدون أو يكررون نفس السيناريو السابق في مدن العاصمة الثلاث من قتل و نهب وسرقة …. إكتفيت باغطية نوم لبناتي الثلاث وقذفت بغطاء نومي بعيداً في الأرض واكتفيت بآخر خفيف لزوجتي ليقيها برد هذه الأيام وزمهريره و تَحاشيا وتفاديا لثقل الحمل . تركت باقي الأطعمة الزَهيده والبَسكوت وأنا أرمقهم بِحسرة وأسى فكنا في أمس الحاجه لهم لكن لا مكان ولا وقت ولا هناك من يحملهم وغالباً سوف نَنَزح إلى ما تجد إقدامنا الواهنة حيث يستقر بها مقام لا نَعلمه أو نَنَزح إلى مكان آخر لا نعلم أين وكيف وما مدآه ؟ فكيف نهتدي ونحن في حيرة مسبقة وذهول فالله وحده العليم أو قد يكتب لنا أن تحط الحرب أوزارها ونستكين بحوله وقوته ..صور آسية للنزوح بِلا هدى … إلى أين و إلى متى ؟؟ العلم عند الله وأبواب الديار المهجورة مُغلقة أو مُنفرجة أضحت لا تهم !!!!!!    The post ( النزوح الثاني) appeared first on صحيفة مداميك.