بقلم: عاطف عبداللهفي زمنٍ تتهاوى فيه البيوت، وتُطمس فيه الأزقّة من الخرائط كما تُمحى الوجوه من الذاكرة، يصبح التمسك بعتبة بيت قديم فعلاً من أفعال النجاة، وطقساً من طقوس الإيمان بالمستحيل.يصبح البقاء مقاومة، والوفاء لوطنٍ صغير اسمه البيت، آخر ما يتمسك به الإنسان في وجه الطوفان.سأنقل لكم قصة حسن مهران، كما رواها لي صديقه عثمان “دور”.ليست هذه القصة عن الموت، بل عن الوفاء. ليست عن الحرب، بل عن رجلٍ جعل من بيته قلعةً أخيرة للصمود.لكن بدءاً كلمة لا بد أن أقولها بوضوح:ليست الحرب سوى مقصلة جماعية للذاكرة، والبيوت، والعلاقات. لا تُفرّق بين من حمل السلاح، ومن حمل كأس ماء أو جرة طعام لجاره. في حروبنا، لا توجد جبهات واضحة، بل موتٌ يتسلل من كل زاوية: قنّاص من شرفة، دانة من مدفع، قذيفة من السماء، أو جندي يقتحم بيتك ويسرق آخر ما تبقى من الأمان.الحرب ليست مجداً لأحد. تجعل كل شيء هشّ، تنزلق فيها الاخلاق إلى درك سحيق، وتنعدم فيها المروءة، إلا الحزن… فهو دائم، وعادل في توزيعه.وسط دمارٍ يعمّ المدينة، وجوعٍ يقضم الحياة من أطرافها، اختار حسن مهران أن يبقى. لم يكن عاجزاً عن الرحيل، فقد سبقه معظم أهل الحي، بل وجلّ أفراد أسرته، لكنه رفض المغادرة. لم يكن القرار سهلاً؛ فبعد سقوط الحي في قبضة الجنجويد، صار البقاء فيه مخاطرةً يومية. ومع ذلك، ظل حسن في بيته، كأن بينه وبين الجدران عهداً لا يُكسر، أو سرّاً لا يُباح.لم يكن الجنجويد وحدهم هم الخطر، بل الحرب ذاتها، هذه التي حوّلت الجيران إلى غرباء، والمنازل إلى أفخاخ، والليل إلى كابوس من ظلام وخوف.وُلد حسن مهران ونشأ في حي الركابية، أحد أحياء أم درمان القديمة؛ تلك الأحياء المتشابهة في ملامحها، وروائحها، وأنفاس ناسها، كأنها عُجنت من طينة واحدة. أزقة متربة ضيقة، بيوت متلاصقة، وجيران تتداخل حيواتهم كما تتصل منازلهم عبر الممرات والأبواب، التي تربط الداخل بالداخل.ورغم سعة أم درمان واتساعها، كانت تبدو كقرية كبيرة، أهلها كعائلة ممتدة؛ تربطهم صلات الودّ والمسؤولية، فلا غريب بينهم، ولا أحد يُترك لخذلانٍ أو وحدة.نشأ حسن متشبّعاً بقيمها: الجرأة، السماحة، المروءة، التواضع… و”الجدعنة والحرفنة” التي طالما ميّزت أولاد أم درمان.البيت الذي وُلد فيه ظل مأواه حتى النهاية؛ احتضن ضحكاته الأولى، وشهد صباه وشبابه وشيخوخته، ثم أخيراً، احتوى جسده الراحل.كان حسن عاشقاً لتربية الحمام والعصافير منذ صغره. امتلك سرباً متنوعاً من الطيور، يقضي جلّ وقته في رعايتها، ويجد عزاءه في تغريدها. ومع اشتداد الحرب، صار توفير الطعام لها شبه مستحيل. ومع ذلك، كان يخاطر بنفسه ليجلب لها الحبوب.في إحدى المرّات، تعرّض للضرب والإهانة على يد الجنجويد، حين ذهب إلى غرب المدينة القديمة، شمال استاد الهلال، بحثاً عن غذاء لطيوره، خصوصاً تلك الداجنة التي أبقاها معه بعد أن أطلق سراح الطيور القادرة على الطيران.كان يتحسر وهو يرى بعضها يحتضر أمام عينيه، لكنه لم يملك إلا الوفاء لها.يحكي لي عثمان “دور” والدموع تملأ مآقيه:رغم قسوة الظروف، تأقلم حسن مهران مع واقع الحرب، وتقاسم الضروريات معنا ومع من بقي من الجيران. لم تكن بيننا صلة دم، لكن الحرب توّجتنا بأخوّة الحاجة والخوف والسند، في زمنٍ انهارت فيه مؤسسات الحياة.لم تجمعنا الحرب، بل عرّت هشاشتنا، وكشفت كم نحن وحدنا حين نُركن إلى الخوف.لكن وسط هذا الخراب، نشأت روابط جديدة؛ روابط يائسة، لكنها إنسانية، وكأننا نحتمي ببعضنا من وحشٍ لا يُسمّى.في أعلى البنايات بشارع كرري، تمركز قنّاص من الجنجويد يراقب الحي بأكمله؛ يرى كل صغيرة وكبيرة داخل البيوت والأزقّة. وكان منزل حسن مكشوفاً تماماً أمام ناظريه.كلما زرته، سمعت طلقات تحذيرية في الهواء. رسالة صامتة لكنها واضحة:“نحن نراكم… أنتم تحت أعيننا.”عندما قررت الرحيل أخيراً، بعدما بلغ السيل الزبى، وبات القصف لا يفرّق بين عدو وحليف، أو بين مسجد وشارع، توسّلت إليه أن يغادر معي. لكنه ابتسم ابتسامة حزينة، وقال:“أمشي إنت… أنا ما بقدر أخلّي البيت، حتى لو فاضي.”في آخر يوم لي بالركابية، كنت معه في منزله. وقبل مغادرتي، وصل ثلاثة من أفراد “الدعامة” مدجّجين بالسلاح، يقودون دراجات بخارية من تلك التي اغتنموها في الحرب.اقتحموا المنزل وأنا على وشك الخروج، أحمل بعض الأواني الفارغة.طلبوا مني العودة إلى الداخل. شرعوا في تفتيش البيت غرفةً غرفة. لم يجدوا شيئاً ذا قيمة.نظر أحدهم نحوي ونحو حسن بازدراءٍ صامت. في تلك اللحظة، كانت حياتنا معلقة بخيطٍ رفيع؛ مجرّد نظرة أو حركة خاطئة قد تكلّفنا كل شيء.طأطأنا رؤوسنا في خنوع، فغادروا دون أن ينطقوا بكلمة.غادرت بعدهم. رجوت حسن للمرة الأخيرة، واستحلفته أن يأتي معي، لكنه ظل على موقفه. ودّعني بابتسامة راجية، متمنّياً لي التوفيق. وكانت تلك آخر مرة أراه فيها حياً.انتقلتُ إلى الطرف الآخر من المدينة، حيث الحارات المنسية والمساكن العشوائية، التي لم تطلها يد الحرب ولا يد الحضارة.وفي الليلة التالية، جاءني النبأ كطعنة باردة:دانة سقطت على بيت حسن، أصابته مباشرة في الرأس، وأزهقت روحه في الحال.لم يتأوّه. لم يصرخ.مضى في صمتٍ يليق به.دانة واحدة، أنهت حياة رجلٍ أعزل، لا يملك إلا قلبه، وبعض الحنين.لم يكن في البيت لا سلاح ولا متاريس، فقط رجلٌ يحاول النجاة بكرامته.لكن الحرب، كعادتها، لا تسأل، ولا تعتذر، ولا تهتم.إنها تقتل لا لشيء، بل لأنها موجودة.هكذا مضى حسن مهران، كما عاش؛ وفياً لما يحب، رافضاً أن يترك جداراً بلا ظل، أو حارة بلا ذاكرة.رحل وترك الحي أكثر صمتاً، وأكثر يُتماً.رحمك الله يا حسن.حتى الطيور، تلك التي أطلقتها نحو السماء، عادت في المساء تبحث عنك فوق السطوح… فلم تجدك.سلام عليك في الغياب، كما كنت سلاماً في الحضور.نم قرير العين، يا آخر الأوفياء.كُتب اسمك في دفتر الحرب، لا كرقمٍ في تعداد الضحايا، بل كسطرٍ طاهر.لا تزيله دماء، ولا تمحوه الدموع، ولا تنساه البلاد.مضيتَ يا حسن، لا لأنك اخترت الرحيل، بل لأن الحرب لا تترك لأمثالك خياراً.الحرب التي لا تفهم موسيقى الطيور، ولا تؤمن أن هناك من يبقى لأجل باب، لأجل حائط، لأجل ذكرى.لقد قتلتك الحرب، لكنها لم تكسب شيئاً.أنت خسارتها النقية.الحرب ليست بطلاً يُحتفى به في نشرات الأخبار.الحرب وجهٌ قبيح، كلما طال مكوثه في حياتنا، كلما بهتت أرواحنا أكثر.ما حدث لحسن مهران يتكرر كل يوم، في أم درمان والخرطوم، في الفاشر والجنينة، وفي كل بقعة من السودان طالتها يد الحرب أو نسيتها الدولة.في كل بيت قصة، وفي كل زقاق تنهيدة، وفي كل حي وحارة قبر مفتوح.إلى متى نعدّ موتانا، دون أن نحاسب قتلتهم؟متى نكفّ عن انتظار الضربة التالية، ونبدأ في استعادة الحياة؟The post (من دفتر يوميات الحرب السودانية) appeared first on صحيفة مداميك.