وجدي كاملفي عام 2003، كنت أعمل بالتدريس بكلية الآداب – قسم الإعلام بجامعة الخرطوم، وأتعاون في الوقت ذاته كمحرر للملف الثقافي بصحيفة الرأي العام.في تلك الفترة، كلّفني الراحل الأستاذ إدريس حسن، رئيس تحرير الصحيفة، بموعد مهم: لقاء مع مولانا بابكر عوض الله، الرجل الذي لا يتكرر، والذي تقلّد رئاسة السلطات الثلاث – التشريعية والقضائية والتنفيذية – في مراحل متعاقبة من تاريخ السودان الحديث.كان اللقاء بمنزله في حي العمارات بالخرطوم، حيث ذهبتُ إليه في موعد نهاري. لم يكن لديّ حينها تصور واضح لمصير المادة التي كنت بصدد التوثيق لها؛ أهي للنشر أم للأرشفة؟ استقبلني الرجل بالجلباب السوداني الأبيض في صالون بيته الفسيح، الذي كانت تشبه ملامحه بيوت كبار الموظفين في ذات الحى الراقي العريق.كان في منتصف الثمانينيات من عمره، لكنه بدا كشعلة من الحيوية، بذاكرة متقدة تستحضر التفاصيل كأنها حدثت بالأمس.بدأت بسؤاله عن إضراب القضاء في أكتوبر 1964، ثم تدرّجنا إلى الحديث عن انقلاب 25 مايو 1969، وكيف جرى التحضير له.في واحدة من مفاجآت اللقاء، كشف لي بابكر عوض الله – الذي تغافلت عنه العديد من كتابات التوثيق – عن دوره التنظيمي المدني المحوري في الانقلاب.قال لي إنه لم يكن يعرف ضباط مجلس قيادة الثورة معرفة شخصية، باستثناء فاروق عثمان حمد الله (وليس “حمدنا الله” كما يشاع)، وهو من كان على صلة وثيقة به.أخبرني أن اجتماعاتهم كانت تتم كثيرًا في هذا الصالون، ثم أشار بيده إلى سلّم يقود إلى غرفة علوية، قائلاً: “فوق هنا كانت بتتم اجتماعاتنا.”في مراحل لاحقة، دعا فاروق بقية الضباط للانضمام.ثم روى لي كيف نشبت لاحقًا خلافات بينه وبينهم، قادته إلى أن يختار الاستقالة في أكتوبر من نفس العام، أي بعد خمسة أشهر فقط من تولّيه منصب رئيس الوزراء.تحدثنا عن علاقته بمصر، وعن محمد نجيب، وجمال عبد الناصر، والضباط الأحرار، وعن حركة القوميين العرب، والحزب الناصري.قضينا ساعتين في حديثٍ ثري، ولما استأذنته للعودة لاحقًا بعد تفريغ المادة ومواصلة الحديث، طلب مني تأجيل الأمر، لأنه كان يعتزم إصدار مذكراته قريبًا.رحل بابكر عوض الله في 17 يناير 2019، بمدينة دبلن، عاصمة جمهورية أيرلندا بعد ان تجاوز المائة عام، دون أن نحظى – حتى الآن – بصدور تلك المذكرات التي، وحسب علمي، لا تزال محفوظة لدى أسرته الكريمة.وأتمنى ألا تكون قد طالتها يد الحرب اللعينة، كما طالت تراث ومحفوظات العديد من أسر السياسيين والمبدعين السودانيين، قبل أن ترى النور.The post في تَذَكُّر رجلٍ مُهم appeared first on صحيفة مداميك.