رسول حمزاتوف .. عن ثلاث روايات شعرية

Wait 5 sec.

بقلم وارد بدر السالمزهتِ السّجادة زهرةً قربَ زهرةكداغستان الحبيبة أوج الصيفاخترتها خيطًا فخيطًاهكذا من الأسطرِ الرائعةيتولد لدى الشاعر الإبداع(رسول حمزاتوف)تعرفنا على رسول حمزاتوف عربيًا؛ في الأغلب الأعم؛ من خلال التحفة الفنية والملحمة الشعبية (داغستان بلدي) وبدا فيها الشاعر كبيرًا في تجربته الحياتية القروية التي صاغته منذ طفولته وكوّنته، ثم صاغها فنيًا بمعمار نثري هندسي غاية في الدقة والجمال والإبهار. أحيا فيها قريته الصغيرة “تسادا” وأطلقها إلى العالم كمكان ملهِم لبنائه الإنساني قبل الإبداعي. فمن تلك القرية المنسية، أو التي لا يعرفها أحد، وربما لا توجد على خريطة العالم، انطلقت تجربة الشاعر في كل زوايا الحياة فيها، واكتسب الحكمة منذ يفاعته، واستطاع أن يستقدم شخصياته القروية الأثيرة التي كوّنت تسادا وكونتهم عبر تاريخ طويل من الجمال والمرارات والموروثات المحلية الجبلية، ومن ثم الحكمة.وفي (داغستان بلدي) برزت إمكانية الشاعر النثرية في صياغة ملحمة قروية فيها من الجمال والحكمة والموعظة واستحضار التاريخ والموروث الشعبي، ما لا يمكن أن يُنسى. وباعتقادنا أن هذه الرؤيا الداغستانية في سردياته الروائية للقرية هي حصيلة تجربة طويلة في المكان الذي منحه الكثير من الفيوض الروحية والجمالية. وصقلها بالموهبة والاستمكان السردي والشعري بطريقة فذة. لذلك فحمزاتوف هو ابن التجربة المكانية بكل ما فيها من جماليات عالية الدقة والمستوى الخلاق.الرواية الشعريةفي كتابه “ثلاث روايات شعرية” (ترجمة أحمد ناصر- منشورات اتحاد الكتاب العرب – دمشق- 2019) يختلف النسق الأدبي كليًا عن كونه شاعرًا مبدعًا. فمن النثر الداغستاني القروي المحلّق، إلى شعرية الكتابة المحلية أيضًا، لكن بمهيمنات القصيدة التي تتصاعد دراميًا في وقائع هي أكثر صلةً بالزمن الداغستاني في شعبياته الموروثة القائمة على حبكة التشبث بالموروث، والماضي الجبلي وأصالته التي أحكمت وجودها في أعناق الأجيال المتتابعة. لهذا جاءت الروايات الثلاث في طريقة عرضها قصائد طويلة معبأة بالحزن والشجن اليومي لأحداث يمكن أن تكوّن وحدات أدبية شعرية توازن بين الحاضر وحكمة الماضي، في نوع أدبي، كُتب في أزمان ماضية، وأعيد إنتاجه في الأزمنة الحديثة (الرواية الشعرية) لكنه لم يكن له حضور حساس وتسلسل نقدي أو تواصل جنساني، ونعتقد بالشكل العام، بأن هذا الجنس الأدبي لم يتمكن من أن يكون ذا قوة أدبية توفّر هاجسًا نقديًا دائمًا أمام ملاحم العصور الحديثة. ونعني بهذا بأنه مفهوم ملتبس اسمه (الرواية الشعرية) بالعكس مما وفرته لنا أساطير الأولين من شعريات ونثريات وملاحم أدبية جبارة. ليس مهمًا أن يكون الشعر هو عمودها الفقري، ولا النثر بوصفه أكثر استرسالًا من نقيضه الشعر، بل دراما الحياة وأسطورياتها المتعددة، هي التي كانت وراء تلك النتاجات الضخمة التي بقيت حتى هذا اليوم. ومنها: الإلياذة، الإنياذة، جلجامش، مهابهارتا، الكوميديا الإلهية، والشاهنامة. حتى “ألف ليلة وليلة” التي تتميز بسعتها الإطارية وتداخلها الفني واقترانها بالمعرفة السائدة في الزمن العباسي، واغترافها من العلوم والآداب وجماليات الزمن الذي كُتبت فيه، مستقدمة المعارف العربية والفارسية والهندية والمصرية، هي ملحمة لولبية شعبية وثقافية واجتماعية بغض النظر عن طريقة كتابتها وتعاقب المؤلفين على روايتها والإضافة اليها. وبالتالي فإن الزمن الأسطوري استبدله زمن العصر وحداثته وما بعد حداثته، مثلما ساهمت النظريات الفلسفية والأدبية النقدية في تغيير مناخات القراءة، وتغيير المستوى العلمي والثقافي للقارئ الذي لا تبهره الملاحم وأساطيرها وخرافات الأحداث التي تنطوي عليها.سنرى أن مفهوم الرواية الشعرية مفهوم يأخذ من السرد والشعر بنيته الأساسية. لكن الأساس والمحتوى هو الشعر ومستلزماته الفنية، ضمن إطار سردي فيه حبكة ودراما وفكرة مركزية تدور حولها أحداث معينة. بمعنى يحتوي هذا النظام على تقنيتين سردًا وشعرًا يتوجب تجانسهما. وحتى مفهوم الشعرية هو مفهوم دراسة أدبية النص عبر أنظمته الداخلية سردًا وشعرًا. وإذا ما أخذ الشعر وجهًا شعريًا بهذا المفهوم في غالب الأحيان في الدراسات والمباحث، فإن السرد الشعري في أدبياته له حصة ما في تلك الدراسات والمباحث. وبين هذين الخطين النقديين، تأتي الرواية الشعرية لتمازج بينهما في أنظمتها وقوانينها الداخلية. لكن مع ملاحظة أن العصر العلمي والتقني الحديث لا تتوفر فيه أسطورة معاصرة. لقد انتهى عصر الأساطير الرومانسية والاجتماعية. وحلّت معه كتابات وأجناس جديدة، نختلف أو نتفق بمضامينها وتقنياتها البنيوية. لكنها تؤشر بشكل واضح إلى أن القديم من الكتابات هو ثمرة حضارات ومعارف انسانية طويلة المدى.صونوا أمهاتكم.. الشال الأسودالرواية الحمزاتوفية الأولى حملت عنوان (صونوا أمهاتكم) وسنتخذها أنموذجًا للرواية الشعرية التي يمكن أن تثير بعض الأسئلة النقدية تحت تسمية “الشعرية” مع أن الترجمة كما ندرك تقتل الكثير من جمال الشعر في لغته الأصلية. وتقدم هيكله الأخير بطريقة قسرية. فلا مفر من الاعتراف بالتباين بين لغتين أسلوبيًا في الأقل.عنوان الرواية يبدو للوهلة الأولى في ظاهره وباطنه توجيهيًا. ليس بطريقة الوعظ المبسطة، لكنها بذرة واضحة لديمومة الحياة عبر الأم، وما تحمله من دلالات رمزية وانسانية. لكن المفارقة أن الرواية تبدأ بموت الأب “أخالُ أن العربة قد انكسرت وسط الطريق” وهذا الموت المتوقع حمل وصية أبوية بُنيت على أساسها هيكلية الرواية. والوصية من كلمتين فقط: (صُنْ أمك) وقد فتحت الضوء واسعًا على القرية والريف والتقاليد الجبلية. وقبل هذا أنارت الأم بوصفها منتجًا للحياة، وباذرة أساسية في حقل الأجيال المتتالية لتغدو رمزًا. تخرج من اللفظ إلى الاستعارة، ومن الوصف إلى البِنية. ومن الواقع إلى الدلالة.قسم حمزاتوف روايته إلى ثلاثة أجزاء قصيرة. وكل جزء تفرّع إلى تفريعات جانبية، تغذّي المتن – الوصية. ففي الجزء الأول هناك متتاليات هي: شال المرأة الريفية الأسود- أغنية الشال الأسود- حديثي مع الشال الأسود- هي ذي تلك القصة – لم أحسن يا أمي الذود عنك – ويمكن حصر اللون الأسود في هذا الجزء كعلامة تشير إلى الحزن الأمومي القروي الذي تتشابه فيه نساء القرى في كل مكان تقريبًا. ومن النسق البنائي وتكرار مفردة الأم والتنويع على التراث الجبلي الداغستاني، سنلمح بوضوح وبساطة أن السيرة الذاتية الحمزاتوفية تتدخل في هذه التداعيات الشعرية، فهو لا يفارقها في جل نتاجاته الشعرية والسردية. كونها المكان والحاضنة والخيمة الواسعة التي دخلت في تفاصيل موهبته الأدبية. ومن هذه الحاضنة لا تخرج الأم بوصفها كيانًا واقعيًا، إلا إنه يمكن استشفاف تلك الواقعية من جملة معطيات وأهمها “الشال الأسود” الذي يؤنسنه حمزاتوف بطريقة ذكية، ويتركه محاوِرًا على مدار الرواية (أنا الشال الأسود .. أنا جرحٌ أسود..) وفي المتواليات الكثيرة التي يلقيها الكاتب على كاهل الشال الأسود وقد كان سابقًا (ناصع البياض) غير أن تكرار الأحزان أحالت لونه إلى السواد الحزين ليكون شاهدًا على متواليات الحزن الريفي في قرية تسادا الداغستانية.موت الأب كان البداية من دون أن يُذكر كثيرًا في مسار السرد الشعري، كونه بِنية معطّلة واقعيًا. لكنها دافعة إلى الوجود الآخر: الرمز- الأم التي جُسّدت بالشال الأسود، وهذا الأخير يستدعي التراث المحلي وأساطيره الجبلية الكثيرة ليس أقلها القتال بسبب الغرام:يبرق السيفان، ويُحمى الوطيسسقط أحدهما وقُتل الآخرونسي الجميع العروس.وعودة الأب لاحقا في المسار الشعري، هي عودة ما مضى من الحياة القديمة. ويكون الأب الصورة – التحفة الذي قال الوصية ورحل:كان أبي شاعرًاكلماته كما الرصاصة، تطير إلى هدفها.داغستان الكبيرة تقدر كلهاالأشعار التي خلّفتها هذه القرية الصغيرة.مثل هذا التنويه المتأخر نسبيًا عن النسق السردي – الشعري، هو نوع من التواصل بين الأحياء والأموات عبر أساطير الريف وقوته في أن يستمد حضوره الأزلي من المحافظة على تلك التقاليد الجبلية في ريفها الموصوف بالجمال والأصالة. وحتى في سياق العودة إلى المهد في (أغنية المهد كما أتذكرها) هو استذكار مقصود لإحاطة الأم – الرمز وتوطيد الماضي بالحاضر في استرسال بنية قصصية قد تكون مفهومة في سياقاتها الاعتبارية والرمزية ومن ثم الواقعية. فالأم التي تغني وتحيك السجادة خيطًا خيطًا هي الناسجة الحقيقية للقرية ولداغستان كلها. والتضمين الأبوي الذي لم يكن عابرًا في الأحوال كلها هو إحالة ريفية إلى الجبل والقوة والشجاعة والإلهام الشعري، كفاعل حساس في عمليات الاستقبال الضمني للسلطة الأبوية المتمثلة بالأب.هيروشيما.. الموت العالميلا يمكن فرز دراما واحدة في هذا السفْر الشعري القصير. وإذا كان موت الأب هو الدلالة السريعة والمباشرة التي افتتح بها حمزاتوف هذه الرواية الشعرية، فإن الكثير من الرمزيات القروية حيكت ببساطة في بنية الاستذكار والاسترجاع عبر الأم والقرية والتراث المحلي والأساطير المتوارثة والشجاعة الريفية المتأصلة. غير أن حمزاتوف وهو يخاطب أمه يتوسع في ملاحقة الهم الإنساني العالمي ويسترجع معها في الغربة رمزًا كارثيًا عالميًا تتأسى الإنسانية لتذكره وذكراه حيث:(أنا في مدينة فوق جناحها الحزيناجتمعت كل أحزان العالم المعاصرأنا في هيروشيما، في بؤرة الأسى.هنا كل شيء مشبّع بالموت..)  هذا التوسع في استرجاع أحزان المدن والقرى العالمية وكوارثها العسكرية تصغير لحجم المأساة المحلية، في الشال الأسود وسواه من مفردات المرأة الداغستانية المجللة بالحزن الأسطوري. وإيحاء ضمني للإشارة إلى حزن العالم في أي مكان مهما كان قريبًا أو بعيدًا. ولعل المأساة الهيروشيمية في فداحة خسائرها البشرية والنفسية والتاريخية، هي المَعْلم الكبير الماثل أمام العالم حتى اليوم. وربما مع هذا الاسترجاع التاريخي قدّم حمزاتوف صورة سريعة لهزيمة الحياة أمام بطش العالم. وموت الأب الذي تسبب في هذه التداعيات كان مفتاحًا لبنية روائية في التاريخ المحلي أولًا، ومن ثم العالمي. ليقدم بعدها ثلاث عشرة أغنية للأم بوصفها رمزًا دائم الخصوبة، حفل بالمفردات الأثيرة لديه: الغرانيق. الأوزات. العشب. البيت. القنديل. الشجرة. العصفور. الهضبة. الزهرة. الجرف. الموجة. الشمس. نجوم الليل. البرد. أرجوحة. المهد. الموقد. الشتاء. الجذور.. وهي مفردات قروية في رثاء الأم، ونحسبها انتقالة من الحياة إلى الموت، بعد أن كان الموت إيذانًا لفتح صفحات الماضي من الحياة الجبلية عبر الأم برمزها المتشعب. والموت ذاته كنهاية حتمية توسعت في ذات الشاعر في تلميحاته المباشرة لمأساة هيروشيما:قلبي جبلٌ من القلقهكذا تقول الأمهات. هوامش:رسول حمزتوف 1923- 2003: شاعر داغستاني، ولد في قرية تسادا في مقاطعة خونزاخ في جمهورية داغستان بجمهورية روسيا بالاتحاد السوفياتي السابق. درس في معهد غوركي للآداب (1945-1950). أهم أعماله: داغستان بلدي – حوار مع أبي – البنت الجبلية – النجوم العالية – نجم يحدث نجما – السمراء- مسبحة السنين. من أكثر الأدباء في العالم نيلًا لجوائز وأوسمة ونياشين رفيعة منها: جائزة الاتحاد السوفياتي الحكومية- وسام العمل الشجاع في الحرب الوطنية العظمى (1941-1945)-  وسام الصداقة بين الشعوب- جائزة لينين – وسام القديس أندرو- نيشان الصوفة الذهبية – وسام الراية الحمراء من حزب العمال – وسام ثورة أكتوبر – نيشان الاستحقاق الوطني الروسي من الدرجة الثالثة – وسام لينين ( أربع مرات) – بطل العمل الاشتراكي – نيشان كيرلس وميثوديوس – وسام استحقاق الأرض من الدرجة الثالثة – وسام الصداقة بين الشعوب- وسام ثورة أكتوبر- وسام الراية الحمراء – وسام بطرس العظيم – جائزة ستالين من الدرجة الثالثة – جائزة “أفضل شاعر في القرن العشرين” الدولية – جائزة الكتاب في آسيا وأفريقيا “لوتس”- جائزة جواهر لال نهرو- جائزة فيدروسكي – جائزة خريستو بوتيف – جائزة شولوخوف الدولية في الفن والأدب- جائزة ليرمونتوف – جائزة باتير – جائزة ستالسكي.الإلياذة: عبارة عن نص شعري للشاعر هوميروس، كتبها مع ملحمته الأوديسا، وجمعت أشعارها عام 700 ق. م. بعد مائة عام من وفاته، وتروي قصة حصار مدينة طروادة.المهابهاراتا: مجموعة من الطقوس في الهند القديمة، تكاد تكون تعاليمها شاملة حول الحياة والموت والإنسان والمصير، تتجاوز 74 ألف بيت شعري.الإنياذة: ملحمة شعرية لفرجيل، حيث قضى اثنتي عشرة سنة في تأليفها، ومات مريضًا قبل أن يتمها.السيرة الهلالية: ملحمة طويلة تصف تغريبة بنى هلال وخروجهم من ديارهم في نجد إلى تونس، وتبلغ نحو مليون بيت شعري.الشاهنامه: موسوعة تشمل تاريخ الفرس وتحمل الكثير من القصص والأساطير، وتضم أقدم أساطير فارس حتى الفتح الإسلامي.الكوميديا الإلهية: أعظم أعمال دانتى أليجييرى، وتعد بمثابة البيان الأدبي الأعظم في العصور الوسطى الأوروبية، وصاحبة الأثر الأكبر على العديد من المؤلفات الأدبية،الفردوس المفقود: ملحمة شعرية لجون ملتون كتبها في عام1667 ويدور موضوعها حول هبوط الإنسان من الجنة إلى الأرض، وحول آدم وحواء وإغراء إبليس لهما وحول جنات عدن متأثرا بالروايات الدينية.الموسوعة الحرة – ويكيبيدياhttps://diffah.alaraby.co.uk/diffah/books/2022/11/3/%D8%B1%D8%B3%D9%88%D9%84-%D8%AD%D9%85%D8%B2%D8%A7%D8%AA%D9%88%D9%81-%D8%B9%D9%86-%D8%AB%D9%84%D8%A7%D8%AB-%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%B4%D8%B9%D8%B1%D9%8A%D8%A9The post رسول حمزاتوف .. عن ثلاث روايات شعرية appeared first on صحيفة مداميك.