جِنيفْ: آليَّة وَقْفُ إطْلَاقِ نَارِ مُراقَبٌ، أمْ هُدْنَةٌ وَرَقِيَّةٌ أُخْرَى؟

Wait 5 sec.

بروفيسور مكي مدني الشبليانحدرت الحرب في السودان إلى واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في القرن الحادي والعشرين. ملايين النازحين، مجاعة تلوح في الأفق، ومدن تحولت إلى أنقاض. حاول المجتمع الدولي مراراً وقف القتال عبر إعلانات متكررة لوقف إطلاق النار، لكنها جميعاً انهارت في غضون أيام. ما يحتاجه السودان الآن ليس اتفاقاً ورقياٍ جديداً، بل وقفاً شاملًا لإطلاق النار تحت المراقبة، مدعوماً ومفروضاً بآلية إنفاذ ذات مصداقية.المخرج الذي يكتسب زخماً هو إنشاء بعثة لمراقبة وقف إطلاق النار بقيادة الاتحاد الأفريقي (AU) وإيقاد (IGAD)، وبدعم فني من الأمم المتحدة وتمويل من الشركاء الدوليين الثنائيين ومتعددي الأطراف. وخلافاً الجهود السابقة، لن يعتمد هذا النموذج فقط على حسن نية الأطراف المتحاربة، بل سيُدخِل التحقق والمساءلة والرقابة المدنية في صميم العملية.المسارات القانونيةالسؤال المركزي هو: هل تتطلب مثل هذه البعثة قراراً من مجلس الأمن الدولي؟ الجواب: ليس بالضرورة. فالاتحاد الأفريقي وإيقاد يمتلكان بموجب مواثيقهما التأسيسية وأطر مجلس السلم والأمن، السلطة القانونية لإنشاء بعثات مراقبة في الدول الأعضاء. صحيح أن مصادقة مجلس الأمن تضيف ثقلاً سياسياً وشرعية أكبر، خاصة إذا استخدمت صور الأقمار الصناعية أو أصول حفظ السلام، لكنها ليست شرطاً قانونياً.فالنموذج الأنسب إذن هو ملكية أفريقية بدعم أممي، بدل الانتظار إلى ما لا نهاية لاتفاق مُتَوَهَّم في نيويورك التي ظلت فريسة للفيتو وأصبحت ضحية للفيتو “العكسي”. وقد أثبتت بعثات أفريقية سابقة نجاحها بهذا النمط، مثل بوروندي ودارفور، والتي جرى لاحقاً تعزيزها بمشاركة الأمم المتحدة.القيادة والسيطرةالبنية المقترحة لفرض وقف إطلاق النار في السودان رشيقة لكنها قوية، بحيث يكون المقر الرئيسي في بورتسودان، مع مراكز إقليمية في دارفور وكردفان والنيل الأزرق. ويقود البعثة مبعوث مشترك للاتحاد الأفريقي وإيقاد، يدعمه نائب من الأمم المتحدة للتنسيق الفني. وتتكون فرق المراقبة الميدانية من مراقبين عسكريين، وضباط لحماية المدنيين، وخبراء نظم معلومات جغرافية. والأهم، إشراك المجتمع المدني، من مؤسسات فكر مستقلة ونقابات مهنية، ومراكز تميُّز، وجماعات نسائية، وزعماء محليين، في لجان وقف إطلاق النار المحلية. وهذا يضمن ألا يُنظر إلى البعثة كصفقة عسكرية بحتة بين طرفين مسلحين، بل كآلية لحماية المدنيين السودانيين.عمليَّاً، تستخدم البعثة ثلاث أدوات رئيسية:التحقق عبر الأقمار الصناعية لمراقبة الانتهاكات في الوقت الحقيقي.خط ساخن يعمل 24 ساعة أسبوعيَّاً لتفادي الاشتباكات ويربط القوات المسلحة السودانية (SAF) وقوات الدعم السريع (RSF) والجهات الإنسانية.لجان وقف إطلاق النار المحلية لحل النزاعات وحماية المدنيين وتوثيق الخروقات.على أن تقوم هذه الآلية برفع تقارير شهرية علنية لمجلس السلم والأمن الأفريقي، وإيقاد، ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لضمان الشفافية.الإطار الزمنيستكون البعثة مبدئيَّاً محدودة بـنحو 180 يوماً، يُستَغَل الشهر الأول لتأسيس المقر والتوظيف، والشهر الثاني للانتشار الجزئي وتفعيل الخط الساخن، والشهر الثالث لتشغيل المراقبة بالأقمار الصناعية واللجان المجتمعية، وبحلول الشهر الرابع تكون التغطية شاملة لكل السودان، مع التأكيد على رفع تقارير منشورة عن الانتهاكات.وبنهاية الشهر السادس، إما أن تكون الآلية قد نجحت في تثبيت وقف إطلاق النار، أو وَثَّقَت خرقه بشكل ممنهج مما يلزم بفرض العقوبة الرادعة على الجهات المخترقة. وعند فرض الوقف الكامل لإطلاق النار يتهيَّأ المجال لبدء العملية السياسية في المرحلة الثانية. ويجدر التأكيد على أن هذه الصيغة الزمنية المحددة بستة أشهر تمنع «التضخم البيروقراطي» وتُطَمْئِن المانحين والسودانيين أن الهدف من الآلية الهجين (Hybrid) هو النتائج، لا الديمومة.الكلفة والتمويلالتكلفة المقدرة للأشهر الستة الأولى هي 50 مليون دولار، موزعة كالآتي:• 15 مليون دولار للكوادر والبدلات.• 15 مليون دولار للتكنولوجيا (صور أقمار صناعية، اتصالات آمنة).• 12 مليون دولار للوجستيات (نقل، مراكز ميدانية، وقود).• 3 ملايين دولار لإشراك وتدريب المجتمع المدني.• 5 ملايين دولار للاحتياط والأمن.ويمكن أن يأتي التمويل من صندوق السلم الأفريقي، ومساهمات دول إيقاد، وصندوق ائتماني مانح يُديره البنك الدولي أو برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. كما يمكن أن يساهم الاتحاد الأوروبي (برنامج كوبرنيكوس – Copernicus Programme) أو قدرات أمريكية وبريطانية بصور الأقمار الصناعية كدعم عيني يقلل التكلفة. وبالمقارنة مع المليارات التي تُنفق سنوياً على الإغاثة الإنسانية وتداعيات الحرب في السودان ودول الجوار وما بعدها، تُعد هذه تكلفة متواضعة لإسكات البنادق.الإذعان أم الفرض؟السؤال الأكثر إلحاحاً هو: هل تُنفذ هذا الآلية فقط بموافقة الأطراف المتحاربة، أم يمكن فرضها عليها؟ فمن حيث المبدأ، القبول أفضل. إذ لا يمكن لوقف إطلاق النار أن يصمد إذا رفض الجيش أو الدعم السريع المراقبة. لكن على المجتمع الدولي أن يُدرك أن الطرفين وقّعَا مراراً اتفاقات وقف إطلاق نار ولكن تم خرقاها بلا عواقب. وعليه فإنه من غير المعقول منح أي طرف حق الفيتو الكامل مما يعني تكريس الحرب بلا نهاية. وعليه فإن الطريق الأمثل هو مقاربة هجينة تتضمن ما يلي:• انتزاع موافقة أولية من الطرفين لتفادي الرفض العلني.• وفي الوقت نفسه، تأطير الآلية باعتبارها التزاماً إقليمياً ودولياً لحماية المدنيين وضمان وصول المساعدات.• استخدام مزيج من الحوافز (المساعدات، والعفو عن غير مرتكبي جرائم الحرب) والضغوط (العقوبات، وتجميد الأصول) لضمان التعاون.الخُلاصَةلقد عانى السودانيون أكثر من عامين من الدماء لأن وعود وقف إطلاق النار افتقرت للتحقق والمساءلة. وعليه فإن وقف إطلاق نار مراقب بآلية ناجعة بقيادة الاتحاد الأفريقي وإيقاد، وبدعم من الأمم المتحدة وتمويل من المانحين، يقدّم مساراً واقعيَّاً لإسكات البنادق. وهذه الآلية المقترحة قانونية ولا تتطلب قراراً صعب المنال من مجلس الأمن، ومحدودة التكلفة، وقابلة للتنفيذ في غضون 180 يوماً. وهي تدمج الرقابة المدنية، وتوظف التكنولوجيا، وتوازن بين موافقة طرفي الحرب والإلزام الإقليمي والدولي. والأهم، أنها تضع سلامة المدنيين السودانيين في قلب العملية. فقد فشلت الهدن الورقية عبر المبادرات المتعددة، مما يعني أن وقف إطلاق النار المراقب عبر آلية ناجعة هو السبيل الوحيد لمنح السودانيين المنهكين فسحة تنفس هم في أمسّ الحاجة إليها لطي صفحة الحرب الفاجرة والتطلع لمستقبل مشرق.المدير التنفيذي، مركز الدراية للدراسات الاستراتيجيةThe post جِنيفْ: آليَّة وَقْفُ إطْلَاقِ نَارِ مُراقَبٌ، أمْ هُدْنَةٌ وَرَقِيَّةٌ أُخْرَى؟ appeared first on صحيفة مداميك.