خالد الغناميمنذ أن أبصرت السينما النور أواخر القرن التاسع عشر، لم تُختزل قيمتها في كونها اختراعاً تقنياً أو وسيلة جديدة للترفيه الجماهيري، بل تجاوزت ذلك لتصبح فنّاً قادراً على إعادة تشكيل رؤيتنا للعالم، وصياغة الزمن والحركة في صور محسوسة نابضة. لقد جمعت بين الفن والتقنية، بين الحكاية والتجربة الحسية، فاستحوذت على اهتمام الفلاسفة الذين رأوا فيها أفقاً مختلفاً للتفكير، لا يقل شأناً عن النصوص الفلسفية الكبرى. في هذا الأفق، تتجسد السينما كمساحة للتأمل في ماهية الزمن والحركة، وفي العلاقة بين الصورة والمعنى، وكأداة قادرة على طرح الأسئلة الوجودية بأسلوب بصري يتجاوز ما تمنحه اللغة المكتوبة.هذا ما التقطه الفيلسوف الفرنسي العبقري جيل ديلوز، الذي وضع السينما في قلب النقاش الفلسفي، مقترحاً مقاربة جذرية لفهمها من خلال تمييزه بين نمطين أساسيين: «سينما الحركة» و«سينما الزمن». لم يكن هدف ديلوز مجرد تصنيف للأفلام أو تفريق نقدي تقليدي، بل الكشف عن أنماط الوجود وإدراك العالم، التي تنعكس في بنية الصورة السينمائية. هكذا أسس ديلوز لقضية تفلسف السينما، فبالنسبة له، السينما ليست حكاية مصورة أو سرداً للأحداث فقط، وإنما هي طريقة للتفكير بالصورة، ولإدراك الزمن والحركة بوسائل بصرية لا توفرها اللغة وحدها.في «سينما الحركة»، ينطلق البناء من منطق الصورة الحركية؛ حيث تتوالى المشاهد بوصفها أفعالاً وردود أفعال، وتكون الحركة المبدأ المنظّم للصورة. في هذا النمط، يُستدل على الزمن من خلال الحركة؛ من تغيّر المواقع، وتعاقب الأحداث، وتسلسل الأسباب والنتائج. السينما الكلاسيكية، خصوصاً تلك التي ازدهرت قبل منتصف القرن العشرين، بما فيها أفلام هوليوود التقليدية، تمثل أوضح النماذج، إذ يكون كل مشهد خطوة في مسار سببي يقود إلى نتيجة، والفيلم سلسلة مترابطة تحكمها وحدة الفعل. ويمكن أن نجد مثالاً بارزاً على ذلك في أفلام جون فورد، مثل «Stagecoach 1939»، حيث تتشكل الحكاية من سلسلة أفعال متعاقبة، كل منها يستدعي الفعل التالي في مسار لا ينفصل فيه السرد عن الحركة.أما «سينما الزمن» فتشكّل قطيعة مع هذا النمط. فقد ظهرت ملامحها بعد الحرب العالمية الثانية، في عالم فقد إيمانه بالسرديات الكبرى وبالبطولة الفردية، وصار يعكس واقعاً مفككاً وإنساناً ممروراً محطماً، وزمناً لا يُقاس بالحركة وحدها. في هذا النمط، يصبح الزمن حاضراً في الصورة ذاتها، عنصراً مرئياً أو محسوساً مباشرة، مستقلاً عن الحركة. يمكن أن تتوقف الحركة أو تتعطل، لكن الصورة تظل حية ومشبعة بالوعي بالزمن، تفتح المجال للتأمل بدل الاكتفاء بالسرد. في السينما الإيطالية التي يمتد فيها العمل الفني لمدة 4 ساعات وأكثر، وقد تدور الكاميرا وهي تصوّر رجلاً يمشي على الشاطئ لمدة 20 دقيقة، في حيرة من المشاهد الأميركي الذي لا يفهم الغاية، يكون الزمن هو الأرضية التي تصف الوجود.تتغير في هذا التحول نحو التأمل طبيعة اللقطة السينمائية. ففي «سينما الحركة»، اللقطة وسيلة انتقال إلى لقطة أخرى في بناء سببي، بينما في «سينما الزمن» تصبح اللقطة فضاءً للتوقف، وللتأمل فيما وراء السرد، وقد تكشف عن تزامن أحداث أو مستويات زمنية متعددة في إطار واحد. كذلك يختلف دور المونتاج؛ ففي النمط الأول، يكون المونتاج أداة ربط محكمة تحافظ على وحدة الفعل، أما في النمط الثاني فيصبح مفتوحاً، يسمح بالقفزات والانقطاعات وتداخل الأزمنة. ومن الأمثلة التي يستحضرها ديلوز هنا أعمال ياسوجيرو أوزو، مثل «Tokyo Story 1953»، حيث يمكن أن تبقى الكاميرا ثابتة على مشهد منزلي عابر، أو على ممر فارغ، لتجعل المشاهد يشعر بحضور الزمن الصافي، بلا استعجال للحركة أو الحبكة.يرى ديلوز أن هذا التحول لم يكن خياراً جمالياً فحسب، بل ضرورة أملتها التغيرات التاريخية والاجتماعية. فبعد الحرب، وجد المخرجون أنفسهم أمام شخصيات فقدت السيطرة على مصائرها، وأمام عوالم فقدت تماسكها، فجاءت الصور لتعكس هذا التصدع. صار الزمن البطل الحقيقي.الفرق الجوهري بين النمطين، كما يشرحه ديلوز، هو أن الأول يرى العالم من خلال ما يمكن فعله فيه، أما الثاني فيراه من خلال ما يمكن كشفه أو معايشته، حتى لو لم يحدث شيء على مستوى الفعل. في «سينما الحركة»، تكون الصورة تابعة للفعل، بينما في «سينما الزمن» يصبح الفعل تابعاً للصورة، وقد يغيب لصالح حضور الزمن نفسه. هذا الانقلاب يفتح أمام السينما آفاقاً فلسفية واسعة، إذ يمكّنها من تمثيل مفاهيم معقدة مثل الذاكرة، والحلم، والانتظار، والانقطاع، والصدفة، بحيث تتحول الصور إلى أدوات للتفكير لا تقل شأناً عن المفاهيم الفلسفية ذاتها.ولا يتوقف الأمر عند الجانب الجمالي أو السردي، بل يمتد إلى طبيعة المشاهدة نفسها. فالمتلقي في «سينما الحركة» يشارك في لعبة توقع الأحداث، ويتابع مسار الحكاية بتركيز على العلاقات السببية، بينما في «سينما الزمن» يتحول إلى شاهد على حضور الزمن، إلى متأمل في التفاصيل، إلى قارئ للإشارات والإيماءات التي قد لا ترتبط بحبكة محددة. بهذا المعنى، تمنح «سينما الزمن» المتفرج دوراً فكرياً أعمق، وتدعوه إلى إعادة ترتيب علاقته بالصورة، لا بوصفها مجرد مشهد عابر، بل بوصفها تجربة زمنية كاملة.لا يضع ديلوز هذا التقسيم ليقيم حواجز صارمة بين النمطين، بل ليدلّل على أن السينما، مثل الفلسفة، تتحرك بين أنماط متعددة من إدراك العالم. وقد يجمع فيلم واحد بين لحظات من «سينما الحركة» وأخرى من «سينما الزمن»، لكن وعي الفارق بينهما يمنح المشاهد أداة أعمق لقراءة الصورة وفهم بنيتها. من خلال هذا الوعي، يمكن النظر إلى السينما باعتبارها مختبراً لتجربة الزمن والمعنى، ومساحة تتلاقى فيها الفلسفة والفن على نحو فريد، حيث تغدو الصورة مجالاً للتجربة الفكرية، كما هي مجال للإبداع الجمالي.The post من سينما الحركة إلى سينما الزمن… لا تقل شأناً عن النصوص الفلسفية الكبرى appeared first on صحيفة مداميك.