بروفيسور إبراهيم أحمد البدويالمنظور التأسيسي (Foundational Perspective) للعقد الاجتماعي هو منظور فلسفي ومعياري، يسعى للإجابة على السؤال الأساسي: “لماذا يوافق الأفراد على العيش تحت سلطة سياسية وما الذي يضفي الشرعية على الدولة؟” وبالتالي، يشرح العقد الاجتماعي التأسيسي سبب شرعية السلطة السياسية وضرورتها. من ناحية أخرى، يتناول منظور العقد الاجتماعي البرامجي (programmatic Perspective) كيفية ممارسة السلطة، والالتزامات التي تقع على عاتق الدولة تجاه مواطنيها، وكيفية تفعيلها في المؤسسات والسياسات الفعلية.لقد أدى تاريخ السودان الطويل من الحروب الأهلية والحكم الاستبدادي – والأسوأ من ذلك عسكرة السياسة والاقتصاد منذ وصول نظام “الإنقاذ” الكليبتوقراطى الفاسد للسلطة – إلى تآكل شرعية الدولة، بينما تسارع تجريف الدولة السودانية بصورة مخيفة بعد انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر وصولاً الى حرب أبريل الوحشية المدمرة. لهذا ليس مستغرباً أن يميل قطاع واسع من الشعب السودانى إلى التشكيك في الشرعية السياسية للدولة السودانية المركزية، بل والتمرد عليها كما فى حالات الحروب الأهلية المتواترة، حيث أصبح السودان يُعرَّف بأنه بلد “الهشاشة والصراعات وعدم الاستقرار السياسي”. عليه، هناك حاجة ماسة لإعادة التفكير بشكل جذري في عقدنا الاجتماعي على المستويين التأسيسي والبرامجي لكى نفهم حالة التشرذم والتوهان وربما “اللاوطنية” واللامبالاة التى نعيشها بالرغم من التهديد الوجودى الماثل لنا كشعب ووطن، ونسعى للإنعتاق والتحرر منها لبناء “وطن شامخ وطن عاتى .. وطن خير ديمقراطى”، كما حلُم به الشاعر الفحل محجوب شريف ونسجه شعراً وطنياً رائعاً، تغنى به الفنان العظيم محمد وردى نشيداً سارت به الركبان – عليهما الرحمة والرضوان.سنعرض فى المقال الحالى للمنظور التأسسيى من وجهة نظر الفلسفة الغربية التاريخية وفى المقال الذى يليه نتناول وجهة نظر الفقه والفلسفة الاسلامية فى سياق المشروع الفكرى للامام الراحل الصادق المهدى، عليه الرحمة والرضوان. أخيراً، أزمع تخصيص عدة مقالات لاحقة لمعالجة المنظور البرامجى فى السياق السودانى، كمجتمع ودولة يسعيان الى الخروج من حالة “الهشاشة والصراعات وعدم الاستقرار السياسي” وبناء “السلام المدنى الديمقراطى النهضوى”. سأركز فى بعض المقالات على توصيف “النهضوى” والذى، برأى، هو بمثابة “الفريضة الغائبة” فى المشروع الوطنى السودانى. كما سأبين فى هذه السياق، فان انجاز تحول تنموى غير مسبوق فى تاريخ السودان الحديث – يرقى لمصاف “المعجزة النموية” – هو الشرط اللازم لاستدامة الديمقراطية ونجاعة العقد الاجتماعى، لأنه الانجاز الوطنى الأهم لمخاطبة جذور أزمة المشروع الوطنى السودانى فى المجتمعات التى تعانى من التخلف والتشرذم والاصطفاف الهوياتى، كما نحن فى السودان. الا أن تناول مفهوم “الشرعية الاقتصادية” كاستحقاق مرجعى فى العقد الاجتماعى قد ظل سطحياً أو مهملاً الى حدٍ كبير فى حوارات النٌخَب وأدبيات الحركة السياسية السودانية.المنظور التأسيسى فى الفلسفة الغربية:بالنظر إلى جذوره الفلسفية، فإن المنظور التأسيسى للعقد الاجتماعي لا يتعلق بالسياسات العملية بقدر ما هو مسكوناً بالتبرير الأخلاقي للنظام السياسي. في هذا السياق، صاغ مفكرون مثل هوبز ولوك وروسو مفهوم العقد الاجتماعي باعتباره اتفاقاً ضمنياً أو صريحاً بين الأفراد لتشكيل مجتمع سياسي مقابل الأمن والحقوق والنظام.توماس هوبز (1588-1679): هو مفكر بريطانى فى الفلسفة السياسية (political philosophy) اشتهر بنظرياته حول العقد الاجتماعي وأسس النظام السياسي. كانت نظرة توماس هوبز المادية والميكانيكية للسلوك البشري رائدة في القرن السابع عشر وأسست لمقاربته لمفهوم العقد الاجتماعي، التي أوجزها في عمله الرائد “ليفياثان” عام 1651 . يشير مصطلح “ليفياثان” إلى السلطة السيادية القوية (الدولة) التي تم إنشاؤها من خلال عقد اجتماعي بين الأفراد.• يبدأ هوبز بفكرة حالة الطبيعة(state of nature) ، وهي حالة بدون حكومة، حيث تكون الحياة “منعزلة، فقيرة، بغيضة، وحشية، وقصيرة”. في هذه الحالة، يتصرف الأفراد فقط بدافع الحفاظ على الذات، مما يؤدي إلى الخوف والصراع المستمرين.• للهروب من هذا الفوضى، يتفق الناس بشكل جماعي على تشكيل عقد اجتماعي، ويتنازلون عن بعض الحريات لسلطة مركزية مقابل الأمن والنظام.• يرمز “الليفياثان” إلى هذه السلطة السيادية – سواء كانت ممنوحة لملك أو لمجلس – التي تمتلك السلطة المطلقة لإنفاذ القوانين وضمان السلام.يستخدم هوبز الصورة التوراتية لمفهوم الليفياثان (وحش بحري عملاق) للتأكيد على القوة الساحقة والسلطة غير القابلة للتجزئة للسيادة، الضرورية لمنع المجتمع من الانهيار مرة أخرى في الفوضى. بالنسبة لهوبز، الليفياثان هو استعارة للدولة ككيان اصطناعي، قوي للغاية، تم إنشاؤه بإرادة جماعية للأفراد لضمان البقاء والاستقرار.في مقال قادم، سأعتبر الدولة السودانية العسكرية القمعية بمثابة “ليفياثان” معاصر لشرح “المتلازمة السياسية السودانية” في سياق ما يسمى بنموذج الممر الضيق الذي وضعه البروفيسور دارون أسيموغلو وجيمس روبنسون، الحائزان على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2024.جون لوك (1632-1704): هو أيضاً فيلسوف ومفكر اجتماعي بريطاني، يُعتبر على نطاق واسع “أبو الليبرالية”، وقد أثر بشكل عميق في تشكيل أفكار الديمقراطية والحكم الدستوري وحقوق الإنسان. يعد كتاب لوك “الرسالة الثانيةحول الحكم” أحد النصوص الأساسية للفكر السياسي الليبرالي الحديث، وقد أثرت نظرية لوك تأثيراً عميقاً على التقاليد الديمقراطية الليبرالية، بما في ذلك إعلان استقلال الولايات المتحدة واعتماد الأسس الدستورية الحديثة. هذا وقد كُتب في سياق الثورة المجيدة (1688) في إنجلترا (كانت الثورة سلمية نسبياً، حيث لم تشهد حروباً دموية واسعة، لذا سُمّيت “المجيدة”، ومهّدت لتطور الديمقراطية البرلمانية البريطانية وأثّرت في الفكر السياسي الغربي). ولهذا قدم هذا الكتاب بديلاً جذرياً وأكثر تقدمية عن منظور هوبز للعقد الاجتماعى كما ورد في كتابه “ليفياثان”:• حالة الطبيعة: يصف لوك حالة الطبيعة بأنها حالة من الحرية والمساواة، حيث يحكم الناس القانون الطبيعي (العقل). على عكس هوبز، فهي ليست بالضرورة حالة حرب، ولكنها يمكن أن تصبح غير آمنة بدون سلطة محايدة.• الحقوق الطبيعية: يولد البشر مع حقوق طبيعية في الحياة والحرية والملكية. هذه الحقوق غير قابلة للتصرف وتوجد قبل الحكومة.• العقد الاجتماعي: يشكل الناس الحكومات من خلال عقد طوعي لحماية حقوقهم. على عكس السيادة المطلقة لهوبز، يصر لوك على أن الحكومة محدودة ومشروطة – إذا فشلت في حماية الحقوق، يحق للمواطنين مقاومتها وحتى الإطاحة بها.• السلطة الشرعية: لا تكون السلطة السياسية شرعية إلا بموافقة المحكومين، ويجب أن تخدم القوانين الصالح العام.جان جاك روسو (1712-1778): ولد في جنيف، عام 1712، لكنه انتقل إلى باريس، حيث انضم إلى دوائر المفكرين التنويريين. بجانب أنه فيلسوفاً معروفاُ، فقد كان أيضاً روائياً ومؤلفاً موسيقياً. ركزت أعماله على الحرية والمساواة ، مما ميزه عن غيره من مفكري عصر التنوير. ومع ذلك، أدت آراؤه الراديكالية حول الدين والسياسة إلى حظر أعماله في فرنسا وجنيف، وقضى معظم حياته في المنفى. يُذكر روسو باعتباره ناقداً ذو رؤية ثاقبة فى قضايا اللامساواة ومدافعاً عن السيادة الشعبية، وقد أثرت أفكاره على الحركات الثورية والديمقراطية في جميع أنحاء العالم وألهمت الحركات الديمقراطية والثورية، خاصة الثورة الفرنسية، ووضعت الأسس للديمقراطية الجمهورية والتشاركية الحديثة. يعد كتاب روسو “العقد الاجتماعي” حجر الزاوية في الفلسفة السياسية الحديثة وقدم رؤية نقدية عميقة عن للامساواة والحكم الاستبدادي، حيث حلل كيفية تحويل الملكية والقانون والمؤسسات السياسية للاختلافات الطبيعية إلى هرميات راسخة من الثروة والسلطة. فاللامساواة، بالنسبة له، ليست حالة طبيعية بل هي نتيجة للمؤسسات البشرية التي تفسد طبيعتنا الأخلاقية وتخلق التبعية والتنافس والهيمنة. فكرته المركزية هي أن السلطة السياسية الشرعية لا تنشأ من القوة، بل من عقد اجتماعي يتفق عليه جميع المواطنين بحرية.• حالة الطبيعة: كان روسو يعتقد أن البشر كانوا في الأصل أحراراً ومتساوين ومسالمين في حالة الطبيعة، ولكن عدم المساواة والاضطهاد ظهرا مع ظهور الملكية الخاصة والمؤسسات الاجتماعية.• العقد الاجتماعي: لاستعادة الحرية أثناء العيش في المجتمع، يوافق الأفراد على عقد يتحدون فيه تحت “الإرادة العامة” – الإرادة الجماعية للشعب التي تهدف إلى الصالح العام.• الإرادة العامة مقابل الإرادة الفردية: الحرية الحقيقية تعني إطاعة القوانين التي يفرضها المرء على نفسه من خلال المشاركة في تشكيل الإرادة العامة. وبالتالي، فإن السيادة تخص الشعب، وليس الملك.• الحكومة: الحكومة ليست سوى أداة لتنفيذ الإرادة العامة ويمكن تغييرها أو إزالتها إذا توقفت عن خدمة الشعب.الخاتمة:تكتسب الرؤية التأسيسية لمفهوم العقد الاجتماعي أهمية خاصة بوصفها مدخلاً فلسفياً ومعيارياً يجيب على سؤال الشرعية السياسية: لماذا يقبل الأفراد بالخضوع لسلطة الدولة وما الذي يمنحها المشروعية؟ فى هذا السياق أشرنا الى أن أزمات السودان المزمنة من الحروب الأهلية، الحكم الاستبدادي، وعسكرة السياسة والاقتصاد وأخيراً الحرب الأهلية الحالية أدت إلى تآكل شرعية الدولة، مما يستدعي إعادة التفكير جذرياً في العقد الاجتماعي السوداني على المستويين التأسيسي والبرامجي.فى هذا السياق استعرضنا تطور مفهوم “العقد الاجتماعى” في الفلسفة الغربية عبر ثلاثة مفكرين مؤسسين:• توماس هوبز: الذي رأى أن الدولة (الليفياثان) ضرورة لحماية الأفراد من الفوضى في “حالة الطبيعة”، حيث تكون الحياة وحشية وقصيرة.• جون لوك: الذي ركز على الحقوق الطبيعية (الحياة، الحرية، الملكية)، واعتبر أن الحكومة شرعية فقط إذا كانت محدودة ومبنية على موافقة المحكومين، مع حق المقاومة عند انتهاك الحقوق.• جان جاك روسو: الذي بلور مفهوم “الإرادة العامة” باعتبارها أساس السيادة الشعبية، ورأى أن الحرية الحقيقية تتحقق عبر الطاعة الطوعية للقوانين التي يشارك المواطنون في صياغتها.برأى أن المنظور التأسيسي للعقد الاجتماعي، كما طوره هوبز ولوك وروسو، يتيح لنا إطاراً لفهم جذور الشرعية السياسية وأسباب تآكلها في التجربة السودانية. إن مأزق السودان لا يكمن فقط في غياب الديمقراطية أو فشل المؤسسات، بل في غياب مشروع وطني جامع يعيد بناء الشرعية على أسس الحرية، العدالة، والنهضة الاقتصادية. ومن هنا فإن أي عقد اجتماعي جديد يجب أن يتجاوز الفهم السطحي للشرعية ليؤسس على توافق فلسفي وأخلاقي يعزز السيادة الشعبية، ويترجم لاحقاً في سياسات وبرامج عملية تعالج جذور الهشاشة والانقسام وتفتح الطريق نحو السلام المدني الديمقراطي النهضوي.سنواصل في المقالات القادمة، بأذن الله، استعراض المعالجة التأسيسية من المنظور الإسلامي (تحديداً المشروع الفكري للإمام الصادق المهدي) ثم ندلف الى المنظور البرامجي للعقد الاجتماعي في السياق السوداني، حيث نعمد الى التركيز على مشروع النهضة الاقتصادية والتنموية بحسبانها تمثل شرطاً لازماً لنجاعة أي عقد اجتماعي مستدام.___________________________________________* وزير المالية والتخطيط الاقتصادي الأسبق*المدير التنفيذي، منتدى دراسات وابحاث التنميةThe post نحو مشروع وطني من أجل السلام المدني الديمقراطي النهضوى… العقد الاجتماعى من منظور فلسفى “تأسيسى” المقال الأول appeared first on صحيفة مداميك.