د. سلمان محمد أحمد سلمان1تداولت وما تزال تتداول وسائل التواصل الاجتماعي والصحف الالكترونية منذ نهار الأمس، الخميس 4 سبتمبر عام 2025، وحتى هذه اللحظات خبراً منسوباً إلى شبكة الجزيرة الأخبارية مفاده أن السودان وإثيوبيا وقّعا على اتفاقيةٍ ثنائيةٍ فنيةٍ بشأن عملية ملء وتشغيل سد النهضة.وقد تم نشر هذا الخبر بعد أقل من 24 ساعة من صدور بيانٍ مشترك في القاهرة من الآلية الرباعية لوزراء الخارجية والري في مصر والسودان. أشار البيان المشترك للآلية الذي صدر في 3 سبتمبر عام 2025 إلى “أن السودان ومصر تعتبران سد النهضة الإثيوبي مخالفٌ للقانون الدولي وتترتّب عليه آثار جسيمة على دولتي المصب” (السودان أصبح منذ فترة دولةَ مصب!!!). كما أشار البيان إلى أن السد “…يمثّل تهديداً مستمراً لاستقرار الوضع في حوض النيل بسبب المخاطر الجدية المترتبة على الخطوات الآحادية الإثيوبية لملء وتشغيل سد النهضة المتعلقة بأمان السد والتصريفات المائية غير المنضبطة ومواجهة حالات الجفاف.”احتار القراء: هل يصدّقون بيان الآلية الرباعية (المصرية السودانية)، أم يصدّقون خبر شبكة الجزيرة والذي صدر قبل عودة الوفد الوزاري السوداني لبلاده من اجتماعات الآلية في القاهرة؟2نقول للقراء والمتابعين لمسألة سد النهضة تأييداً ومعارضةً “: نعم لقد وقّع السودان مع إثيوبيا اتفاقيةً حول ملء وتشغيل سد النهضة في 26 أكتوبر عام 2022. بل وتمّ توقيع الاتفاقية في الخرطوم ،(وليس في أديس أبابا أو جنيف). وعنوان الاتفاقية “اتفاقية حول القواعد الفنية والإرشادية للملء الأول ولتشغيل سد النهضة الإثيوبي.”وقد سبق التوقيع على الاتفاقية اجتماعٌ موسّعٌ لممثلي عددٍ من الوزارات السودانية المعنيّة بمسألة سد النهضة (وزارات الري والخارجية والزراعة والطاقة)، وعددٍ من خبراء السدود والمياه في السودان (من داخل وخارج وزارة الري) والأكاديميين الذين يعملون في هذا المجال. تمت خلال ذلك الاجتماع المطوّل الموافقة على الاتفاقية بالإجماع بعد أن تمت الإشادة بالوفد المفاوض وما أنجزه للسودان من خلال تلك الاتفاقية. وتلى تلك الموافقة التوقيع على الاتفاقية في 26 أكتوبر عام 2022 بواسطة الدكتور سيف الدين حمد عبد الله ممثلاً للسودان، والدكتور سليشي بقلي ممثلاً لإثيوبيا.وبعد يومٍ واحدٍ من التوقيع (في 27 أكتوبر عام 2022) تمّ التصديق على الاتفاقية بواسطة مجلس السيادة السوداني ورئيسه الفريق أول عبد الفتاح البرهان.ثم قام مجلس الوزراء الإثيوبي بالتصديق على الاتفاقية في 28 أكتوبر 2022، بعد أن تأكّد لهم أن السودان قد صادق على الاتفاقية في اليوم السابق.كيف قام البرهان بالدخول في هذا الاتفاق دون مشاركة (أو علم) مصر؟إنه سؤال “المليون دولار” كما يقول أهل الغرب!يبدو أن هناك من ذكّر البرهان أن الصلاة فيها السر والجهر، فما الذي يمنع ذلك في التفاوض والاتفاقيات؟ لكن من الواضح أن مشاركة السودان في اجتماع الآلية الرباعية في القاهرة كان محاولةً لطمس اتفاقية 26 أكتوبر 2022،والعودة والاعتذار لمصر.3كما ذكرنا أعلاه تختصُّ الاتفاقيةُ بمسألتي الملء الأول والتشغيل لسد النهضة الإثيوبي. يتناول البند الأول من الاتفاقية مسألة الملء الأول للسد، وكمية المياه وتاريخ بدء ونهاية الملء. ويتناول البند الثاني النواحي الفنية لعملية تشغيل السد على مدى العام. وتحتل حيز المادة الثالثة من الاتفاقية مسألة تبادل ونوعية المعلومات والبيانات المتعلقة بالملء والتشغيل التي تلتزم إثيوبيا بتقديمها للسودان، وأوقات تقديم تلك المعلومات. وتغطّي المادة الرابعة مسألة سلامة السد، والتزام إثيوبيا بتطبيق ما تم الاتفاق عليه في هذا المجال، وكذلك خطط التشغيل والطوارئ للسد.تتناول المادة الخامسة دراستي التقييم البيئ والاجتماعي (والتي كان من المُتوقّع الانتهاء منهما بعد فترةٍ قصيرة من توقيع اتفاق إعلان المبادئ حول سد النهضة بين مصر وإثيوبيا والسودان في 23 مارس عام 2015 (سننتطرق لهذا الاتفاق والدراستين لاحقاً في هذا المقال). أما المادة السادسة من الاتفاقية فهي عن آليات التنسيق حول تطبيق بنود الاتفاقية. وتشمل الآلية المستويين – الفني والوزاري لكلٍ من الدولتين. وتجتمع اللجنة الفنية لهذه الآلية كل ستة أشهر لمراجعة تطبيق الاتفاقية. وقد ظلت اللجنة تجتمع بانتظام حتى بعد حرب أبريل إلى أن تقرر فجأةً وقف مشاركة الوفد السوداني في اجتماعات اللجنة، قبل أسابيع قليلة من قرار دمج وزارة الري في وزارة الزراعة (وهو قرارٌ غير موفّقٍ البتّة، ويزيد في عدم التوفيق سوء توقيت القرار).يتوسّع ملحق الاتفاقية في مسألة الملء الأول من حيث كميات المياه التي سيتم حجزها وتواريخ البدء والانتهاء من الملء، والبيانات والمعلومات التي سيتم إمداد السودان بها وتواريخ الإمداد. ويوكِلُ الملحق هذه المهام للجنة الإثيوبية السودانية للموارد المائية المشتركة والتي كان قد تم تشكيلها بمقتضى اتفاق عن التعاون في حوض النيل تم التوقيع عليه بين السودان وإثيوبيا في 23 ديسمبر عام 1991، تحت مسمى “إعلان الخرطوم.” وقد تم تحديث هذا الاتفاق مرتين، الأولى في 3 نوفمبر عام 2013 لتتم إضافة سد النهضة لمهام اللجنة المشتركة، والثانية في 30 أبريل عام 2014 للتوسع في متطلبات التعاون حول سد النهضة.4لم تكن اتفاقية 26 أكتوبر 2022 الاتفاقية الأولى بين السودان وإثيوبيا حول سد النهضة. فقد وقّعت مصر وإثيوبيا والسودان على “اتفاقية إعلان المبادئ حول مشروع سد النهضة.” وقد تم التوقيع على تلك الاتفاقية بواسطة عبد الفتاح السيسي رئيس جمهورية مصر، وعمر البشير رئيس جمهورية السودان وقتها، وهيلاماريام ديسالين رئيس وزراء إثيوبيا وقتها.نصّت تلك الاتفاقية في المادة الأولى منها على مبدأ التعاون “على أساس التفاهم المشترك، المنفعة المشتركة، حسن النوايا، المكاسب للجميع، ومبادئ القانون الدولي، وكذلك التعاون في تفهّم الاحتياجات المائية لدول المنبع والمصب بمختلف نواحيها.”أما المادة الثانية فقد أوضحت أن “الغرض من سد النهضة هو توليد الطاقة، المساهمة في التنمية الاقتصادية، الترويج للتعاون عبر الحدود، والتكامل الإقليمي من خلال توليد طاقة نظيفة ومستدامة يعتمد عليها.”5ونصت المادة الثالثة من الاتفاقية على الالتزام باتخاذ الإجراءات المناسبة لتجنب التسبب في ضررٍ ذي شأن لأيٍ من الدول الثلاثة. أما المادة الرابعة فقد تضمّنت نصوصاً عن الاستخدام المنصف والمناسب شملت العناصر الاسترشادية ذات الصلة لتحديد الانتفاع المنصف. الجدير بالذكر أن هذه المادة تشمل جميع العوامل التي تضمنتها اتفاقية الأمم المتحدة للمجاري المائية الدولية التي دخلت حيز النفاذ في 17 أغسطس عام 2014 (من الغريب أن مصر وإثيوبيا والسودان ليست أطراف في هذه الاتفاقية). وتضيف اتفاقية إعلان المبادئ عاملين آخرين، يتعلق الأول بمدى مساهمة كل دولة من دول الحوض في نظام نهر النيل، أما العامل الثاني فيتناول امتداد ونسبة مساحة الحوض داخل إقليم كل دولة من دول الحوض.وتختص المادة الخامسة من الاتفاقية بمبدأ التعاون في الملء الأول وإدارة السد وتنص على الاتفاق على الخطوط الإرشادية وقواعد الملء الأول للسد والتي ستشمل كافة السيناريوهات المختلفة بالتوازي مع عملية بناء السد. كما تنص نفس المادة على الاتفاق على الخطوط الإرشادية وقواعد التشغيل السنوي لسد النهضة والتي يجوز لمالك السد ضبطها من وقتٍ لآخر.وتشير المادة السادسة إلى أنه “سيتم إعطاء دول المصب الأولوية في شراء الطاقة المولدة من سد النهضة. ويُتوقّع أن تبلغ كمية تلك الكهرباء أكثر من 5,000 ميقاواط، بتكلفةٍ تبلغ حوالي العُشر للميقاواط مقارنةً بالتكلفة الحالية للتوليد في السودان ومصر.وتتناول المادة الثامنة مسألة أمان السد وتتضمن تقدير “الدول الثلاثة للجهود التي بذلتها إثيوبيا لتنفيذ توصيات لجنة الخبراء الدولية المتعلقة بأمان السد.” كما تتضمن التزام إثيوبيا بالتنفيذ الكامل بحسن نية “للتوصيات الخاصة بأمان السد الواردة في تقرير لجنة الخبراء الدولية.”وتختتم الاتفاقية بمسألة التسوية السلمية للمنازعات، وتحدد المشاورات والمفاوضات والتوفيق والوساطة أو إحالة الأمر لعناية رؤساء الدول/رئيس الحكومة كوسائل متدرّجة لحل النزاعات.6لا بد من الإشارة إلى أن إثيوبيا دحلت في تعاقدات لبيع الكهرباء للسودان عام 2013، بعد اكتمال الربط الكهربائي بين البلدين. وقد وصلت كمية الكهرباء التي زودت بها إثيوبيا السودان حوالي 250 ميقاواط سنويا (هذا بالطبع قبل اكتمال سد النهضة). ورغم توقف السودان عن دفع قيمة الكهرباء لإثيوبيا بسب حرب أبريل 2015، إلا أن إثيوبيا أعلنت مراراً أنها ستواصل مد السودان بالكهرباء. غير أن إثيوبيا أعلنت مؤخراً أن عدم صيانة خط الربط الكهربائي مع السودان قد أدت إلى نقصانٍ كبيرٍ ومتواصلٍ في كمية الكهرباء الواصلة من إثيوبيا إلى السودان.7بعد تسعة أشهر من توقيع اتفاقية إعلان المبادئ وقّعت الأطراف الثلاثة على وثيقة الخرطوم في 28 ديسمبر عام 2015. والتي أكد الأطراف الثلاثة فيها التزامهم التام باتفاقية أعلان المبادئ.كما اتفق الأطراف الثلاثة على الدخول في اتفاق مع بيتي خبرة عالميين للقيام بدراستين حول سد النهضة تتعلقان بالتقييم البيئ والاجتماعي للسد. غير أن خلافاتٍ بين الأطراف الثلاثة حول المعيار لقياس أي ضررٍ قد ينتج من سد النهضة حالت دون بدء الدراسة. أصرت مصر على أن المعيار هو استخداماتها القائمة، بينما أصر السودان على حقوقه بموجب اتفاقية عام 1959. وكان معيار إثيوبيا هو عدم التسبب في ضرر ذي شأن والانتفاع المنصف والمعقول بمقتضى القانون الدولي. لهذا السبب لم يتم القيام بهذه الدراسة. لا بد من التركيز على أن الخلاف بين مصر والسودان كان السبب الرئيسي لعدم البدء في هذه الدراسة. وقد قررت مصر والسودان بسبب هذا الخلاف التوقف عن المطالبة بعمل هذه الدراسة والتزام الصمت التام حيالها حتى لا تستغل إثيوبيا هذا الخلاف.8من هذا العرض السريع يتضح أن السودان قد وقّع على ثلاث اتفاقيات مع إثيوبيا بخصوص سد النهضة، يثمّن فيها قيام السد كمشروع تنموي يساهم في التعاون الإقليمي، ويقدر جهود إثيوبيا في تطبيق مستلزمات سلامة السد التي تضمنها تقرير الخبراء، وتلتزم إثيوبيا بتقديم المعلومات حول سد النهضة.كما يؤكد العرض توقيع السودان لاتفاقية 26 أكتوبر عام 2022 والتفاصيل الكاملة لملء وتشغيل سد النهضة التي وافقت والتزمت بها إثيوبيا حيال السودان.عليه فإن إدعاء السودان في اجتماع الآلية الرباعية في القاهرة:(1) أن سد النهضة الإثيوبي مخالفٌ للقانون الدولي وتترتّب عليه آثار جسيمة على دولتي المصب”(2) وأن السد يمثّل تهديداً مستمراً لاستقرار الوضع في حوض النيل بسبب المخاطر الجدية المترتبة على الخطوات الآحادية الإثيوبية لملء وتشغيل سد النهضة المتعلقة بأمان السد والتصريفات المائية غير المنضبطة ومواجهة حالات الجفاف” ادعاءٌ غير أمينٍ وغير سليم.كما أن هذا الادعاء يوضح بجلاء حالة الارتباك التي تتعامل بها حكومة البرهان مع سد النهضة، والحرج الإقليمي والدولي الكبير الذي يتعرّض له السودان بسبب هذه المواقف المتناقضة والمرتبكة التي تتم بها إدارة هذا الملف الحساس والمعقّد والهام والمفيد كثيراً للسودان.The post ما هي حقيقةُ توقيعِ السودان اتفاقيةٍ ثنائيّةٍ مع إثيوبيا حول سدِّ النهضة؟ appeared first on صحيفة مداميك.