صلاح الزينأعلنَ رأس الإله “جانيوس” الجنجويدي حكومتَهُ، حكومة “نيالا”، في الأول من سبتمبر 2025، ونَسِيَ أن الإله جانيوس لا تستقيم ربوبيته إلا برأسه الآخر، الآخر الفلولي. توأمان سياميان بذات المشيمة والسرة وذات “الحِفاظ” الخطابي وثدي تقاسَما رضاعته وشَبَّا عن الطوق. كلٌ يستلزم الآخر وبه يوجَد وبفنائِه يَفنَى وينعدم.للخطاب، خطاب حرب أبريل 2023، سيرة وميلاد. وكان ميلاد سيرته هتاف الديسمبريين:حرية سلام وعدالة، العسكر للثكنات والجنجويد ينحل. هتافٌ أفضى إلى أن تكون حرب أبريل 2023 حتم ضرورة برأس “جنجويدي” وآخر “فلولي”، جسد برأسين يَهِبان الإله “جانيوس” استمرار القداسة في الراهن والمنظور لتبدو الحرب مجرد مشاجرة “شَكلة” بين رأسين لم يطيقا الجلوس على جسدٍ يحملهما كلعنةٍ وعَوْرة. خطاب برأسَيْن الأول فيهما مستلٌّ من ضلع الآخر، الآخر العربسلامي، ليصبح أحد مستويات بنيته. فالخطاب مثله مثل الكائنات ينجب خطابًا آخر لا يخرج عن ضرورات سيرورة الخطاب. يظل مجرد رافعة خطابية في معاونة رافعات أخرى.ومثلما كان انتقال كيكل من الكتف الجنجويدي إلى الكتف الفلولي هو هو انتقال في ذات بنية خطاب الحرب لا خروجًا عنه أضحت كل انتقالات وانشقاقات لاحقة ومحتملة هي هي انتقالات داخل بنية خطاب الحرب لا خروجًا عنها. فقد انسدَّ أي احتمال لذاك الخروج بمقاربة سؤال الحرب كحربٍ بين رأسٍ جنجويدي وآخر فلولي. فقد تم استلال قوات الدعم السريع “الجنجويد” من ضلع الخطاب لتنجز ما وَهنَ وقد يُوهن الخطاب عن إنجازه في خَطوِهِ البعيد والقريب.اندغم الفرع في الأصل وصارا بنيةً خطابيةً برأسين “فلولي” و”جنجويدي” لهما حربهما وضحاياها، حرب الخامس عشر من أبريل 2023 والتي انزلقت من رَحِمِ حَتمِ ضرورة نهضت في وجه أشواق الديسمبريين لفجرٍ يكون فيه العسكر للثكنات والجنجويد ينحل.فكانت الحرب وما صاحَبَها من قراءاتٍ لخطابها موزَّعة بين من يعاينها كحرب بين “فلول” و”جنجويد” ومن ينظر إليها كحربِ خطابٍ واحدٍ ذي بنيةٍ “فلولية” و”جنجويدية” وما تلا ذلك من تَوَزُّعِ الكُتّاب والمحللين والفكر والمفكرين بين فضاءاتِ أدبٍ لا يخرج بها من ثنائية “بلابسة” و”جَغّامة” وما تبع ذلك من تخوينِ كلِ طرفٍ للآخر والاكتفاء بإدراجِهِ ورَبطِهِ بأحد الوَتَديْن وذهابُ الكل في حالِ سبيله لا يلوي على شيء!!ينحط الخطاب ويحارِب انحطاطَهُ باستلال رافعاتٍ من ذات بنيته أو استحداث خطابات أخرى بها يخطو مزيدًا من فراسخ خطابية. فكان الجنجويد تلك النعال والدابة. تم استردافهم في سرج الخطاب العربسلامي ليكونوا أحد مستويات بنية خطابه.وللخطاب، أي خطاب، سقالات فكرية وطبقية تسنده في سيروراته الخطابية. قد تتمايز مستويات بنية الخطاب عن بعضها وتنفصل ولكنها لا تخرج عن سلطة الخطاب. إذ ينتقل أحد مستويات بنية الخطاب فيصبح مركزًا آخرَ لذات الخطاب من غير أن يكون خارج سلطته.سلطة الخطاب بغريزتها الفطرية تُوزِّع مواردَ سلطة خطابها من غير تجفيف نواة سلطة الخطاب الأصل. بذلك أصبح الجنجويد أحد تجليات انحطاط الخطاب العربسلامي الذي بلغ ذروته في عام 1989 والذي هو هو ذات بداية انحداره نحو هاوية لازمة له. فكانوا ذراعه في إبادة شعب دار فور قبل ربع قرن من الزمان وأداةً لنفوذٍ إقليمي ما هو إلا نافذة لرأس المال المعولَم.لماركس قولٌ يقول فيه “إنّ التاريخ يتقدم من جانبه المتعفِّن”، من غير أنْ يعني أنّ ما تَعفَّنَ يَعِدُ بصباح مليء بالصحة والعافية!! مَن كان استطالةً تافهة ورِثةً لخطابٍ أكثر تفاهةً ورثاثة لا يَعِد بغير إعادة إنتاج التفاهة والرثاثة.“الفلول” و”الجنجويد”، رأسَيْ الإله “جانيوس” كل منهما مرآة للآخر والمرآة لا تعكس غير صورة من يقف أمامها. خطابٌ انحطَّ يَستولِد ويَستَحدِث من أحد مستويات بنيته ما يعينه على الخطو فراسخًا خطابية أخرى. مجرد نعالٍ يَهِب قدمَيْ الخطاب مزيداً من الخطو. لا فكاك غير محاربة مَن يخطو ومَن يمد له نعالاً تَهِبهُ قدرةً لمزيدٍ من الخطو.وللخطاب، أي خطاب، ذخيرة من الحيل الابستمية والمعرفية التي بها يخوض حربَهُ ضد خطابٍ آخر. فحرب الخطاب ليست فقط حربًا بين روافع الخطاب الاجتماعية والطبقية بقدر ما هي حربٌ حول كيفية مقاربة سؤال الحرب.فقد غَرِقَ بعضٌ مِن المحللين والكتّاب في بِركة سؤال (مَن بدأ الحرب؟ مَن أطلق الطلقة الأولى؟) فسقطوا في مقاربة الحرب كبعيرَيْنِ في مضمار سباق الهجن وأغفلوا دِربَةَ السائس وأُبُّوة البعير.!! وبرغم ذلك يظل السؤال (مَن بدأ الحرب) سؤالاً ضلَّ دربَ السؤال ليصير سؤالًا الإجابة عليه بلغة الرياضيات وجداول الضرب الرقمية فتموت الإجابة لغموض مفهوم السؤال. الحرب ليست برقًا يلمعُ في ذات التو. الحرب كسيرورةِ مظانٍ ومعاشٍ هي دائما هناك كما الحياة والموت.حرب الخامس عشر من أبريل حربٌ مؤجلةٌ أرهَقَها الانتظار حتى كانت فترات السلام في تاريخ السودان حربًا أخرى مؤجلة تتسوَّر حيطان قيلولات السلام والبلاد. الديسمبريون من أتى بطرح السؤال الذي يقارب بنية الدولة الكولونيالية فيما طرحوه في إنجيلهم “الميثاق الثوري لتأسيس سلطة الشعب”.غرق العقل الرائي لتحليل ومقاربات حرب أبريل في بِركة (مَن أطلق الطلقة الأولى) وما تبع ذلك من تقاربات وتمايزات في خرطة التحالفات والانفصالات التي وسَمَت قوى الحرية و التغيير (قحت) انتهاءً برسو قارِبِها عند “صمود” و”تأسيس” من غير أن يفلت كلاهما من سراب النظر إلى حرب أبريل كحربٍ بين رأسَيْ “جانيوس” الفلولي والجنجويدي وبَقِيا هناك ينظران إلى انشطار خطاب برتقالة الحرب إلى نصفين بدونهما لا تكون البرتقالةُ برتقالةً ولا الخطاب، خطاب حرب أبريل، خطاباً !!خطاب حرب أبريل 2023، برأسَيْه الفلولي والجنجويدي، ومثل أي خطاب آخر، هو تحالفٌ تتنازع أطرافُهُ حول السيطرة والهيمنة على بنية الخطاب وسيروراتة. تبادل المواقع بين مَن يسيطر ومن يهيمن لا يدفع بأطراف ومكونات الخطاب بروافعه الطبقية والفكرية للخروج على سلطة الخطاب.هكذا يرى العقل الرائي إلى سؤال الحرب ومقاربتها بالوقوف عند سؤال من أطلق الطلقة الأولى مما يفضي بها إلى مجرد “شَكْلَة” بين طرفين. فما يبدو أنه نزاع بين الرأس الفلولي والآخر الجنجويدي لا يمكن النظر إليه كصراعٍ بين الرأسَيْن، بل مجرد تنافسٍ حول من يكون المهيمن في السيطرة على فضاء الخطاب وإفصاحاته.هكذا شرع رأس الإله “جانيوس” الجنجويدي في تأسيس “تأسيس” كتغريبةٍ “نيروبية” تضم أطرافاً أخرى، له فيها الريادة والسيادة بما تَوفّر له من موارد مالية وجيوش وعتاد عسكري وكفيل إقليمي يمثل إمبريالية طرفيَّة بدورها معقودة على حبالِ إمبرياليةِ رأس المال المعولَم، يزوِّده بكل أسباب القوة ويستأجره بندقيةً لتفتيت البلاد حتى يسهل نهب ثرواتها ومواردها.وهنا بالضبط يلتقي رأسا الإله “جانيوس” الفلولي والجنجويدي وليكون الأخير آخر تمظهرات الخطاب العربسلامي في مقاومة فنائه واندثاره بإنباتِ جناحين يطير بهما محمولاً على جسد طائر الجنجويد الذي ينبعث من رمادِهِ ليهِب الرأس الآخر، الفلولي، قُبلةَ الحياة وليستوي “جانيوس” على عرشِهِ منتصرًا وشاكرًا. وليس أبلَغَ من ذلك أن يكون “حميدتي” على رأس حكومة تأسيس وهو تلك البندقية التي اُسْتُؤجرت يوماً لإنجازِ مهامٍ عَجزَ عنها الخطاب العربسلامي. نعالٍ ودابة تمد الخطاب العربسلامي بما يُعينُهُ على الخطو.هكذا ترجَّلَ الرأسُ الجنجويدي في الأول من سبتمبر 2025 من على كتف الإله جانيوس ليبقى الرأس الفلولي، هناك، هناك يرمق توأمه مغادرًا لحين عودةٍ تسمح بها سيولة الخطاب.إنها استراحة الخطاب، الخطاب العربسلامي، بين محطتين تسمح للإله “جانيوس” أن يتدبَّر شؤون رأسَيْهِ وما بينهما من مكر وحِيَل.The post في مكر الخطاب وحِيَلِهِ: “نيالا” تمكر والخطاب خير الماكرين! appeared first on صحيفة مداميك.