تقرير- رندا عبداللهبعد مرور أكثر من عامين على اندلاعها، لم تعد الحرب في السودان مجرد أرقام للضحايا أو خرائط ميدانية للمعارك، بل تحولت إلى مسرح مفتوح تتجلى فيه أغرب المفارقات وأكثرها قسوة. وفي أجواء تتسم بالفوضوية وغياب القانون، تبرز قصص تتأرجح بين المأساة الإنسانية والعبثية المطلقة، كاشفةً عن واقع مشوه في انتظار الكثير من العائدين. من رحم هذه الفوضى، ولدت مآسي الكثير من الأسر؛ لا بسبب القصف والدانات الطائشة، وإنما كنتاج طبيعي لانهيار منظومة الحياة.ففي الوقت الذي تحاول فيه السلطات بث الأمل عبر دعوة المواطنين للعودة إلى الخرطوم، يتعرض تاجر ذهب استجاب لهذه الدعوة لعملية اختطاف وسطو مسلح أمام متجره في أمدرمان. مسلحون يرتدون زياً نظامياً يختطفونه، ينهبون كل ما يملك، ثم يطلقون عليه الرصاص لتخويفه قبل إلقائه في الشارع. هنا، تنعكس أبعاد الصورة؛ فمحاولة استعادة الحياة تغدو تحدياً محفوفاً بالمخاطر في عاصمة لا تزال تحيطها الفوضى، وتبتلع رسائل التطمين لتحيلها إلى رسائل إرعاب.ولا يقتصر وصف الفوضوية على الداخل السوداني وحده، لكنه يمتد ليطال اللاجئين في ملاذاتهم الجديدة ممن فروا من ويلات الحرب. ففي مدينة الإسكندرية المصرية، وقع أكثر من ألف سوداني ضحية لعملية احتيال متقنة تحت غطاء “مبادرة العودة الطوعية”. عبر ملصقات أنيقة تحمل صوراً لزعماء سياسيين، تم إيهامهم برحلة عودة آمنة ومنخفضة التكلفة، قبل أن يختفي المحتال ومعه أموالهم، تاركاً مئات الأسر، بينهم أطفال ومسنون، عالقين على أرصفة الطرق في يأس تام.فصول الاحتيال كثيرا ما تتكرر بأشكال مختلفة، حيث يكتشف مسافرون آخرون دفعوا ثمن تذاكر سفر كاملة من القاهرة إلى مدن سودانية، أن رحلتهم تنتهي فجأة عند الحدود في وادي حلفا، ليجدوا أنفسهم ضحايا في “مصيدة” وكلاء السفر الذين استغلوا حاجتهم الماسة للعودة.يفسر الكاتب والمحلل محمد صلاح ازدهار هذه الظواهر بأن “الحروب تخلق حالة فوضى يضيع فيها تركيز الإنسان، فيتصرف بلا وازع ديني أو أخلاقي، مستفيداً من غياب القانون وانشغال المجتمع بالبحث عن طوق النجاة”. في أوضاع مثل هذه تتحول الجريمة إلى قضية شخصية، ويموت أثرها بسهولة في ظل تفكك الروابط المجتمعية.ولعل أكثر صور العبث إثارة للقلق، كما يسميها صلاح، هي حالة “عدم اكتراث” البعض بتداعيات الحرب، لدرجة أن استمرارها يصبح مصدراً للرزق. ويستشهد محدثنا بقصة أسرة التقاها في مصر، قامت بتأجير منزلها في بورتسودان بمبلغ كبير، وأصبحت ترى في استمرار الصراع ضماناً لمصدر دخلها، وهي مفارقة ربما كشفت كيف يمكن للحرب أن تشوه حتى الثوابت والمفاهيم، وتضع الجميع بين فكي كماشة: مأساة لا ترحم، وعبثية لا تعرف حدوداً.The post مأساة لا ترحم وعبثية لا تعرف الحدود.. هل بدلت الحرب منظومة السودانيين القيمية؟ appeared first on صحيفة مداميك.