ابكر عيسى: اتساق الذات في زمن الاضطرابات

Wait 5 sec.

دكتور الوليد آدم مادبوفي حياة بعض الرجال خيطٌ واحد يشدّ جميع العقد: لا ينقطع مهما اشتدت العواصف، ولا يلين مهما انهالت عليه الضربات. ذلك الخيط عند بابكر عيسى كان هو *المصداقية*، المبدأ الذي صاغ مساره المهني والإنساني معًا. كان يرى أن من فقدها فقد ذاته، ومن فقد ذاته لم يبق له شيء. وهكذا ظلّ الرجل متسقًا مع نفسه؛ فإن كتب، كتب كما يؤمن، وإن أحبّ، أحبّ كما هو، بلا زيف ولا تجزئة.بدأت رحلته في “الأيام”، الصحيفة التي احتضنت قلمه منذ 1976 حتى 1980، حيث خبر أولى صداماته مع الإدارة. فقد اعترض على رئيس تحريرها، إبراهيم عبد القيوم، الذي كتب يومًا في مداهنة فجة: *“نحن مع الرئيس فيما قال وفيما سيقول”*. رفض بابكر أن يُحشر في قطيع الموالاة، محتجًا بأن الصحافة ليست جوقة للسلطان.بل احتجّ أيضًا على تحميل الصحفيين وزر فشل التغطية في نيجيريا بسبب نقص الإيرادات. كانت مواقف صغيرة في ظاهرها، لكنها كافية لتكشف معدن الرجل: كان يرى أن *الصحافة ميثاق شرف لا بيان ولاء*. ومن تلك اللحظة، بدأ طريقه نحو المنفى الاختياري، حيث حملته الأقدار إلى قطر.لكن قبل الرحيل، شهد لحظةً ستظل محفورة في ذاكرته: *مؤتمر القمة الاقتصادية في لاغوس 1980*. إذ كان يجري حوارًا مع الرئيس النيجيري شيخو شغاري، فإذا بجهاز التسجيل يتوقف دون أن يلاحظه. عندها لكزه جعفر نميري (رحمه الله) مازحًا بعفويته المعهودة: “بابكر، إنت بتستهبل على الراجل ولا شنو؟” استدرك بابكر وطلب من الرئيس النيجيري إعادة الحوار، فاستجاب الأخير بكرمٍ وابتسامة. كان ذلك المشهد الصغير — وغيره مما ذكرت آنفًا — صورة مكثفة لتوازن بابكر بين التوتر والمرح، بين الخوف والحياة، بين مهنيته الصارمة وإنسانيته الطليقة.وفي ذات الوقت، في نيسان 1980، *كان المشهد في مونروفيا أشبه بصفحةٍ سوداء طُويت فيها آمال قارة بأكملها*. قُتل الرئيس الليبيري ويليام تولبرت في قصره رغم شفاعة الرئيس النيجري لقائد الإنقلاب الرقيب صامويل دو، ثم سيق وزراؤه إلى المشنقة كما تُساق الأغنام إلى حتفها. من بينهم وزير الخارجية سيسيل دينيس، الرجل الأنيق الذي كان يتجوّل عند زياراته للخرطوم من الهيلتون إلى قصر الصداقة بلا حراسة، كأنه يثق في الناس أكثر مما يثق في الأسوار الأمنية أو التحصينات المادية.سُحبت أناقته إلى الرمل، وأُلبست وساماته ثوب المهانة، ثم دوّى الرصاص فأطفأ تلك الملامح الوضيئة. كان المشهد في عيون بابكر أبعد من انقلاب سياسي؛ كان مرثية مفتوحة لإفريقيا، قارةٍ تلتهم أبناءها عند كل منعطف، وتذبح أحلامها بأيديها، ثم تهدي جثثهم إلى صراع القوى الكبرى في أوج الحرب الباردة.روى بابكر تلك الحادثة بحزن عميق إذ أنه رأى أن القارة لا تُعدم رجالها فقط، بل تُعدم إمكانية العبور إلى المستقبل. كان *سيسيل دينيس* رمزًا لذلك الجمال المدني الذي يُقتَل دائمًا أولًا، وكأن القدر كتب على إفريقيا أن تبدأ كل نهضة بمأتم. لم يقرأ بابكر المشهد كخبر، بل كقصيدة رثاء طويلة: رثاء لرئيسٍ قُتل في قصره، ووزيرٍ وُئدت أحلامه على الشاطئ، وقارةٍ ظلت عالقة بين الطغاة والانقلابات، وبين حيل الإمبريالية ومكر التاريخ.وفي ليبيا ذاق محنة السجن بعد أن نشر في بنغازي مقالًا بعنوان *“اتكاءة على حد السكين”*، كشف فيه كيف تعوّض الأنظمة عجزها الداخلي باختلاق العدو الخارجي. سُجن أيامًا، رأى خلالها ما يكفي من المعاناة الإنسانية ليزداد يقينًا بأن وظيفة الصحفي ليست مدح السلطان، بل الشهادة على الحقيقة، ولو كلّفه ذلك حريته.رحل بابكر بعدها إلى قطر، حيث عاش أربعة عقود أو زهاها لم يعرف فيها اعتقالًا ولا مساءلة، بفضل الانفتاح الذي شهده عهد الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني. كان يرى التحولات بعين الصحفي، ويفكر فيها بعقل المواطن، بل ويحلم لدارفور بإنشاء *المصرف التنموي الذي تكفل به أمير قطر وراعي نهضتها*، والذي كان من المؤمل أن يُفتتح بعد اتفاقية الدوحة مباشرة، فيفتح ذاك الإقليم على العمق الاستراتيجي الإفريقي برأسمال قدره 2 بليون دولار. لكن أحلامه وأحلام غيره اصطدمت كالعادة بأمراء الحرب الذين استثمروا في الخراب، كما لو أن لعنة التاريخ كتبت على السودان أن يخسر كل نافذة للخلاص.غير أنّ امتحان بابكر الأكبر لم يكن في الصحافة السياسية، بل في القلب. ففي عام 1998 طرق الفقد باب حياته، لا كزائر عابر، بل كقدرٍ مقيم. رحلت رفيقة دربه *السيدة نعمات إبراهيم* بعد صراع طويل مع السرطان، تاركة في صدره فراغًا لا يملؤه إلا الصبر، ولا يسكته إلا الرضا. كان قد طرق كل باب، وسعى في كل سبيل، كمن يريد أن يستعير من الحياة ساعةً إضافية ليمسك بيدها. غير أنّ يد الموت كانت أسبق، وحكمة الله كانت أمضى.لم يفقد زوجة وحسب، بل فقد زميلة الدراسة ورفيقة الحلم وصديقة العمر، أمًّا لستة أبناء تركت أصغرهم (إبراهيم) طفلًا بين يديه أمانة أشفق من حملها إذ ظلت توصيه به كثيرًا في لحظة الفراق الأخيرة، لكنه لم ينكسر؛ صار أبًا وأمًا في آنٍ واحد، يغمرهم جميعًا بحنان مضاعف، كأنه يزرع فيهم بقايا ابتسامتها الأخيرة (الصورة أعلاه). كان غيابها يوجعه، لكن وجعه ذاته صار زادًا لهم، وصبره امتدادًا لحياتها، شهادةً على الوفاء الذي يتجاوز الفقد ويصنع من الألم قوة للحياة.كان يرى أن الفقد امتحان، لكنه امتحان يكشف معدن الذات: فمن صدق في الحب، صدق في المهنة، ومن صبر أمام الموت، صبر أمام السجن، *ومن ظلّ وفيًا لامرأةٍ واحدة ظلّ وفيًا لوطن بأكمله*. هنا تجلّى سرّ اتساقه؛ إذ لم يكن في البيت رجلًا آخر غير ذاك الذي في المهنة: صادق، ورحيم، وواثق. وبهذا الاتساق اجتاز بابكر محنة الموت كما اجتاز محن الصحافة: مرفوع الرأس، وإن ظل القلب مثقوبًا يكلأه عزاء المولى عزّ وجل (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ).ختامًا، الذات وحدة متسقة، كذرة إن انشطرت انفصلت عراها، كما تعلمنا في دروس الفيزياء، مما يعني في هذه الحالة أن *الاتساق الداخلي هو ما يمنح الإنسان مصداقيته، وقوة صموده*، ومن ثمّ حماية مجتمعه من التشظي والضياع. بهذا، تكون ثلاثية “بابكر عيسى ولد خريف الروى” قد اكتملت، إلى أن ألتقيكم مع فارس آخر من فرسان الحوبة، أترككم في حفظ الله ورعايته.The post ابكر عيسى: اتساق الذات في زمن الاضطرابات appeared first on صحيفة مداميك.