التعايشي والجلابة: صراع السلطة والتاريخ والذاكرة الجريحة

Wait 5 sec.

دكتور هشام عثمانفي الذاكرة السودانية، يظل اسم الخليفة عبد الله التعايشي حمّالاً لصور متناقضة: بطل وطني في مواجهة الغزو الإنجليزي–المصري عند كرري، وفي الوقت ذاته طاغية دموي في المخيال الشعبي لبعض المناطق النيلية. والمفارقة أن هذه الذاكرة القاسية لم تطل الدفتردار، الذي ارتكب مذابح فظيعة في الشمال، بقدر ما لاحقت رجلاً جاء من الهامش وصعد إلى قمة السلطة. فما الذي جعل التعايشي يتحول إلى عقدة جريحة في وجدان الجلابة بينما مُرّرت جرائم الغزاة الأجانب دون هذا الثقل الأخلاقي؟الجواب يكمن في التقاء روايتين: رواية الاستعمار ورواية البيوت. فمن جهة، كانت سياسات الدولة المهدية قاسية بحق قطاعات واسعة: مصادرات، تعبئة إجبارية، ومجاعات ضربت البلاد. هذه الوقائع خلفت جروحاً حقيقية وأحزاناً شخصية وجماعية. ومن جهة أخرى، كان على البريطانيين الذين غزوا السودان أن يبرروا تدخلهم، فوجدوا في الرواية الشعبية مادة جاهزة. فأخذوا ما تقوله الجدات عن فقدان الأبناء ونهب الأقوات، وصاغوه في تقاريرهم كدليل على “طغيان الخليفة”. هكذا التقت دموع البيوت بأقلام الضباط الإنجليز، ليولد خطاب مشوّه لكنه قوي التأثير.غير أن السؤال الأعمق هو: لماذا ركزت الذاكرة على التعايشي أكثر من الدفتردار ؟ السبب أن التعايشي لم يكن غازياً خارجياً، بل حاكماً من الداخل، ومن الهامش تحديداً. وجوده في السلطة شكّل صدمة للنخبة النيلية التي اعتادت النظر إلى نفسها مركزاً طبيعياً للقيادة. أن يحكم رجل من الغرب يعني إعادة ترتيب للهرم الاجتماعي والسياسي، وهو أمر مسَّ كبرياء الجلابة في الصميم. ومن هنا صارت أخطاء المهدية كلها تُسقط على شخصه، وتحولت القصص الشعبية إلى مرويات مبالغ فيها عن السبي والمجازر، لتضخم صورته كرمز للقهر.أما الدفتردار، فقد جرى تأويل عنفه كفعل خارجي ساحق لا يد للمجتمع في رده. كان عنفاً يُقرأ كقوة غاشمة لا كخيانة داخلية. بل إن بعض النخب المحلية استفادت من عودة الاحتلال في حماية مصالحها الاقتصادية والاجتماعية، فوجدت في “تأديب الدفتردار” إعادة للنظام أكثر مما هو جريمة تاريخية. وبمرور الوقت، طُمست فظائع الغزو في الرواية الرسمية التي صاغها الاستعمار نفسه.الإنجليز استثمروا بذكاء في هذه الديناميات. لم يكن عبثاً أن يحيوا رمزية المهدي عبر ابنه عبد الرحمن، فيجعلوا منه إقطاعياً يملك الأرض والموارد، ويقدموه كبديل ناعم للشرعية الثورية. وبالمقابل، أهملوا سيرة بيت الخليفة حتى تلاشت من الذاكرة العامة. هذه السياسة كانت جزءاً من تفريغ المهدية من شحنتها الاجتماعية وتحويلها إلى مجرد رمز روحاني يمكن التحكم فيه.وإذا قارنا التعايشي بحكام ما بعد الاستعمار في السودان، سنجد أن استبداده لم يكن فريداً ولا أفظع من استبداد من جاؤوا بعده. بل على العكس، فقد طورت دولة ما بعد الاستعمار جهاز قمع أشمل وأكثر تنظيماً. لكن الفارق أن هؤلاء كانوا “أبناء البلد”، في حين أن التعايشي ظل يُرى كغريب على المركز. ومن هنا فإن الصورة لم تُبنَ على حجم الاستبداد بل على موقع الهوية.ما نحتاجه اليوم هو إعادة قراءة نقدية لهذه الذاكرة. ليس دفاعاً عن شخص التعايشي، بل إنصافاً للتاريخ. يجب أن ندرك أن ما وصلنا لم يكن مجرد تسجيل محايد للوقائع، بل صناعة معقدة شاركت فيها الصدمة الشعبية، والمصالح النخبوية، وآلة الدعاية الاستعمارية. وأن استمرارنا في إعادة إنتاج هذه الصورة يعني أننا ما زلنا أسرى لروايات كتبها الآخرون واستثمروا فيها لمصالحهم.إن تحرير الذاكرة لا يعني إنكار الألم، بل فهم أسبابه البنيوية. المهدية، مثل أي تجربة تاريخية، حملت نجاحاتها وإخفاقاتها، لكنها ليست مجرد حكاية “طاغية من الغرب”. هي لحظة فارقة في تشكل السودان الحديث، لحظة كشفت توترات الهوية والسلطة والمركز والهامش. وإذا أردنا بناء مستقبل أكثر عدلاً، فعلينا أن نواجه هذه المرويات بعين ناقدة، وأن نعيد قراءة تاريخنا بأدواتنا لا بأقلام المستعمر ولا بأوجاع غير المعالجة.التعايشي، في نهاية المطاف، ليس عقدة فردية بل مرآة لصراع أعمق بين السلطة والهوية والذاكرة. وآن الأوان أن نكسر هذه المرآة المشروخة، لنرى الصورة كاملة بلا تحريف ولا انتقاء. The post التعايشي والجلابة: صراع السلطة والتاريخ والذاكرة الجريحة appeared first on صحيفة مداميك.